عن القرار الوطني الفلسطيني المستقل

24 فبراير 2019
+ الخط -
لم يجادل أحدٌ بأحقية كل دولة عربية بقرارها الوطني المستقل، ولكن هذا لم ينطبق على الفلسطينيين، منذ ما قبل قرار القمة العربية في العام 1974 الذي اعترف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً، والنقاش فلسطينياً لم يتوقف بشأن صحة أن يكون هناك قرار وطني فلسطيني مستقل، وهل هذا القرار المستقل مفيد أو مضر بالقضية الفلسطينية، كما أن المحاولات من الأنظمة العربية للإمساك بالورقة الفلسطينية لم تتوقف يوماً، وقد جرت على خلفيتها صدامات مسلحة فلسطينية - فلسطينية، وصدامات مسلحة فلسطينية - عربية.
هناك من اعتبر القرار الوطني المستقل مؤامرة على الشعب الفلسطيني، بنزعه من حاضنته العربية، وحسب نظرية المؤامرة، فإن موافقة العرب على اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً يمثل مؤامرة على القضية الفلسطينية تستهدف تصفيتها، ولعب الفلسطينيون دور الشريك في عملية التصفية بمطالبتهم بالقرار المستقل. والدليل ما أسفرت عنه المطالبة بالقرار المستقل الذي أَوصل الفلسطينيين إلى اتفاق أوسلو المنفرد مع إسرائيل، وكأن القرار الوطني الفلسطيني المستقل هو الذي أدى إلى هذا الاتفاق، وليس هناك عشرات العوامل التي تضافرت للوصول إليه، بصرف النظر عن أن المرء معارضٌ له.
لم يكن الوصول الى القرار الوطني الفلسطيني المستقل بلا ثمن، ولم يكن أيضا بلا جدوى، لقد شكل هذا الاعتراف منعطفاً في التاريخ الفلسطيني، ليس لأنه يقرّ بهم عضواً في النظام العربي كبقية أعضائه فحسب، بل والأهم أنه كرّس الفلسطينيين وجودا سياسيا له حقوق وطنية على
 خريطة المنطقة والعالم أيضاً، فوجهة النظر التي تقول بالآثار السلبية للقرار المستقل تخلط بين أهداف متعارضة، لتوضع في سياق سلبي، رابطةً بين أشياء لا يمكن الربط بينها، فإذا كان العرب يرغبون في التخلي عن القضية الفلسطينية، فهل يمنعهم تنازل الفلسطينيين عن القرار المستقل؟ وهل استطاع الفلسطينيون، على الرغم من كل التضحيات من أجل القرار المستقل أن ينجزوا ما كانوا يرغبون به فعلاً، أم أن الموقف الفلسطيني في أحسن حالاته بقي أسير الوضع العربي؟
على الرغم من التفاوت في إمكانية الإجابة عن هذه الأسئلة، بحسب رؤية صاحب الإجابة، إلا أن هناك موقعاً آخر، لا بد من النظر إليه عند الحديث عن القرار الفلسطيني المستقل، ولا يكفي أن يقال إن هذا المطلب أوصل الفلسطينيين إلى طلب التسوية، فلا علاقة بين التسوية وصورتها الرديئة بصيغة "أوسلو" والقرار المستقل، لأن "أوسلو" كان خيار القيادة الفلسطينية، ولا أعتقد أنه كان الخيار الوحيد أمامها، على الرغم من الظروف القاسية التي كانت تمر بها. ومن هنا الربط بين القرار المستقل والتداعيات السلبية على الصعيد الفلسطيني، هو خلط بين مسألتين مستقلتين، لا علاقة بينهما، فكان يمكن للقيادة نفسها (نعم للقيادة نفسها وليس لغيرها) أن يكون خيارها مختلفاً، وتعمل على الربط بين المسار الفلسطيني والمسارات العربية الأخرى، بما يحقق تكامل المسارات، ولكن هذا لم يتوفر، ولم تكن الأطراف العربية تريد هذا أيضا، ولا يتحمل الفلسطينيون وحدهم مسؤولية الخراب السائد في المنطقة. أما موضوع القرار الوطني الفلسطيني فشأن آخر، لا أعتقد أن له علاقة بالأداء السياسي البائس للقيادة الفلسطينية في العقود الثلاثة المنصرمة.
من أين يمكن النظر إلى قضية القرار الفلسطيني المستقل؟ لا يمكن فصل القضية عن السياق التاريخي لمعاناة الفلسطينيين، فمنذ وقوع الكارثة الفلسطينية قبل نصف قرن، كانت قضية فلسطين تناقش في غياب الفلسطينيين، وكان العرب هم المتحدثون باسم الفلسطينيين، يتحدثون باسم الغائبين. ومن الغائبون؟ إنهم أصحاب القضية. لذلك لم تكن القضية الفلسطينية تشكل سوى مشكلة لاجئين، بوصفهم عارضا من عوارض حرب العام 1948، تجمعات من البشر طردت من أرضها، وهذا ما يمكن قراءته من خلال قرارات الأمم المتحدة حتى ما بعد قرار مجلس الأمن 242 الذي لا يعالج المشكلة الفلسطينية إلا بوصفها مشكلة لاجئين. ولم يتحول هذا النقاش إلى نقاش للحقوق الوطنية الفلسطينية، إلا بعد سنوات من حرب 1967، ومع الإنجازات الفلسطينية بتحقيق قدر مهم من استقلال القرار الفلسطيني، والمطالبة بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، أسوة بالشعوب الأخرى.
بالتأكيد، تشكل إسرائيل خطراً داهماً على العرب، لكن هذه المخاطر ليست ذاتها على كل الدول العربية. وهذا ليس انتقاصاً من أحد، إنما هو تقدير واقع حال، فما تشكله إسرائيل من خطر على الدول البعيدة لا يتماثل مع المخاطر التي تشكلها على دول الطوق. وإذا كانت تشكل خطراً داهماً على دول الطوق، لأنها تحتل أجزاء من هذه الدول، فإنها في الحالة الفلسطينية كانت خطراً إلغائياً تماماً، على اعتبار أن الشعب الفلسطيني غير موجود أصلاً، كما ادعت 
الصهيونية. ولذلك كان على هذا الشعب أن يعمل من أجل أن ينطق بلسان نفسه، ليقول للعالم أجمع إنه موجود وله حقوق مستلبة.
وتطعن فكرة تعريب القضية الفلسطينية وأسلمتها، حسب منطق بعضهم، في أهلية الشعب الفلسطيني في تمثيل نفسه. وبحيث تظهر دعوته بوصفها وصايةً من العرب والمسلمين على الفلسطينيين الذين يفرّطون بحقوقهم، وهم أكثر حرصاً على القضية الفلسطينية من أصحابها، فيما ليس من شعب في العالم حريص على قضية شعب آخر أكثر من صاحب القضية. ومن حق الشعب الفلسطيني أن يقرر مصيره بنفسه، وبالتالي من حقه أن يملك قراره المستقل. ولا يعني القرار المستقل الفصل مع الدائرة العربية، ولكن أن الشعب الفلسطيني هو الأكثر معرفةً بظروفه ومعاناته، وبالتالي هو الأكثر إدراكاً لاحتياجاته. وهو ليس بحاجةٍ لأية وصايةٍ عربية أو إسلامية، فهو ليس الشعب القاصر الذي يحتاج إلى قيّم على شؤونه، ليعرفه على مصالحه، فالفلسطينيون يستحقون أن يملكوا قرارهم المستقل في أي وقت، وبصرف النظر عمن يقودهم، ولا يُفهم أن يُطلب من الفلسطينيين، من دون غيرهم من شعوب الأرض، أن يتخلوا عن قرارهم المستقل، وأن يضعوا قضيتهم في أيدي الآخرين، وكأنهم شعبٌ تحت سن الرشد.
طبعا، ليس الدفاع عن القرار الوطني الفلسطيني المستقل دفاعاً عن المهزلة الفلسطينية السياسية القائمة اليوم، إنما هو دفاع عن قرار وطني فلسطيني، معبّر عن مشروع وطني جامع، وليس عن سياسات فئوية تعشش في الساحة الفلسطينية اليوم.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.