عن الفيل الذي في الغرفة

30 اغسطس 2017
+ الخط -
ترك أصدقاؤنا الإنكليز، بعد رحيلهم عن بلادنا قبل عقود، أمثالاً كثيرة شائعة بينهم، والتي انتقلت إلى بعضٍ ممن زامنوهم من العراقيين الذين نقلوها إلى الأجيال التي لحقت بهم. واحد من هذه الأمثال يروي حكاية فيلٍ يقيم في غرفةٍ، يشاركه فيها بعض من البشر، ولأن هؤلاء يحاولون الحفاظ على سلامتهم أولاً، وخوفاً من هجوم الفيل عليهم، يعقدون معه نوعاً من السلام المؤقت إلى غاية ما تسعفهم الظروف بالخروج من الغرفة، أو انتظار ساعة فرجٍ تأتي على يد آخرين، ينهضون بمهمة إخراجه من الغرفة أو ترويضه، فيما يقضي من هم خارج الغرفة نهاراتهم ولياليهم في نقاشاتٍ بيزنطية، حول أوضاعهم الماثلة، لا يخرجون منها بنتيجة، لكنهم يتجاهلون وجود الفيل في الغرفة، والذي هو سبب كل البلاء الذي يحدق بهم.
يحدث هذا عندنا كل يوم، حيث يستعيد المعنيون أخباراً وتقارير متواترة، تتناول تطوراتٍ استجدت في المشهد العراقي الراهن، يأملون أنها ستحل مشكلات البلاد، فيما يتجاهلون، ربما عن عمد، المعضلة الأساسية التي ينبغي أن تتوجّه الجهود إلى استئصالها، وهي معضلة وجود "عملية سياسية" طائفية، شرعنها المحتلون، ودستور هجين رسم خطوطه العريضة بيتر غالبريث، صاحب كتاب "نهاية العراق"، وأقرّته سلطة غير شرعية نصبها الأجنبي، يتجاهل هؤلاء المعنيون وجود "الفيل في الغرفة"، ولا يتصدّون لإخراجه.
ولأن المشهد العراقي في حالة سيولة دائمة، تختلط فيها الاتجاهات والأفكار والمشارب، فإن وسائل التواصل تجد فرصتها سانحةً في تلفيق الأخبار، أو في رش الملح على وقائع حقيقية، كي تجذب عين المتلقي وسمعه، وتضعه في دائرة أمل وترقب، فيما تحجب عنه الرؤية الحقيقية لواقع الحال الماثل الذي يحيط به، فزيارة مقتدى الصدر السعودية اعتبرت بداية الحل السحري لمشكلات البلاد، وقيل إنها ستفتح الطريق بقدرة قادر لعودة العراق إلى الحضن العربي، وتمكّنه من أن يعاود دوره قوة فاعلة على المستويين، الإقليمي والدولي. واعتبر آخرون توافق التيار الصدري مع التيار المدني في الرأي، بخصوص تجاوز التقسيم الطائفي للمواقع الأساسية في الدولة مدخلاً مقبولاً لتغييرٍ يرونه قائماً في الأفق، يقضي على إشكالية التنازع الطائفي الذي أقرّته "العملية السياسية"، واستبشروا خيراً بمقولةٍ منسوبة للصدر، في أنه يوافق على المجيء بشخصية علمانية لرئاسة الوزراء في المرحلة المقبلة. وبلغ الشطط ببعضهم، مرجّحاً أن يرشح الصدر شخصية شيوعية لهذا المنصب، وبلغ به الخيال حد تسمية سكرتير الحزب الشيوعي، رائد فهمي، وظهرت تغريدات على "تويتر" تبشر الناس بقرب تحقيق أملهم في "الوطن الحر والشعب السعيد".
وعلى الضفة الأخرى، اشتعلت وسائل التواصل بخبر إجراء حوار بين البعثيين والأميركيين، ووصف بعضهم استقبالاً مزعوماً لوفد الحزب في واشنطن من مسؤولين في الخارجية والدفاع، واحتفل بعض مناصريه بقرب العودة إلى السلطة، وغرقوا في التفاؤل إلى درجة الحديث بما يشبه اليقين عن إنهاء الوجود الإيراني في العراق بقرار أميركي، وتوفير مستلزمات الأمن فيه، وحسم تداعيات الاحتلال، وطرد أفراد "النخبة السياسية" التي جاءت بعد الغزو، وإعادة أموال العراق التي سرقوها، وتعهد الأميركيين بتعويض خسائر العراق، هذا كله بجرة قلم خفيفة.
وأيضاً، فإن إعلان بعض سدنة "العملية السياسية" الطائفية عن تكتلات وأحزاب جديدة، استعداداً لانتخابات العام المقبل دفعت بعضهم إلى تصديق أكذوبة نهاية المحاصصة الطائفية الذين كانوا هم في مقدمة من عمل على ترسيخها وإدامتها.
بقي من أدركه اليأس من الحال، ورأى هؤلاء الحل في هدم المعبد على ساكنيه، وشرعوا يروّجون نبوءة سوداء، مفادها بأن العراقيين سيلاقون حتفهم جميعاً على مدى ربع قرن من الآن، وإنْ على مراحل، لأن أدمغتهم أصبحت محاطةً بجدار من الرصاص، جرّاء استخدامهم رابع أثيلات الرصاص الذي تنفثه السيارات، باستعمالها البنزين غير المحسّن. وعقب عالم عراقي على ذلك بالقول: "الحكام الحاليون هم الأخطر على سلامة الشعب العراقي من أية مادة سامة، بما فيها رابع أثيلات الرصاص"، مدللاً على ذلك بأن الحكومة انتبهت إلى خطورة هذه المشكلة، وخصصت 86 مليار دينار لمعالجتها، غير أن هذا المبلغ اختفى بقدرة قادر.
هكذا تعلمنا الأيام أن انشغالات القوم بأمور كهذه لن تنفع في آخر المطاف، ولا سبيل للحل سوى الاعتراف بوجود الفيل في الغرفة، والتضامن من أجل إخراجه والقضاء عليه، وبعد ذلك لينصرف كل طرف لمداراة حاله.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"