23 أكتوبر 2024
عن العربي الغاضب والمدنيّة المفقودة
ليست كل هذه الظواهر العربية المستحدثة، في العقود الأخيرة، وفي مقدمتها الإرهاب المتدثر بخطاب ديني وتبشير غنائمي، نابعة فقط من تفسيرات دينية متطرّفة، أو مواجهاتٍ بين القوى الدينية والسلطات العربية، بل هي نابعةٌ قبلاً من سياقاتٍ عامة تضرب جذورها في قلب قضية التحديث التي تسير عرجاء منذ أكثر من قرن ونصف قرن، وأفضت إلى جعل العربي يعيش غريباً في دولته الحديثة التي ليس لها من الحداثة إلا الاسم، غير راضٍ عن حاله، حين يقارنه بأحوال نظرائه في الدول المتقدمة.
مثلاً، كان المفكر العربي الراحل هشام شرابي يُرجع ظواهر في المجتمعات العربية إلى أن "الجماهير" فيها محرومة اقتصادياً وجنسياً، ما يدفعها إلى تعويض ذلك الحرمان ببدائل مسلكية وعاطفية. وعلى سبيل المثال، كان يرى أن "الحماسة الدينية" تنبع من هذا الحرمان، فيجد الناس فيها ما يلهيهم عن حرمانهم.
بالضرورة، يبلغ الحرمان أقصى حالاته، حين يحس المرء بأن وجوده وعدم وجوده سيّان. لعل ذلك الشعور ينتاب بعضاً من الناس في مجتمعاتنا العربية التي تعتاش على تهميش أفرادها عبر قمع حرياتهم المختلفة، وليس حرياتهم السياسية وحسب؛ فتدفع إنسانها إلى الشعور بأنه يعيش على الهامش، وخارج التاريخ، كونه لا يشارك في صنع قراره ولا مراجعته، ولا يشارك في الحياة العامة مشاركةً مهمةً ومؤثرة، فضلاً عن أنه لا يمتلك كامل أدوات اختيار حياته الخاصة ومفرداتها.
وهكذا، يكون الإنسان العربي، في حقيقة الأمر، غير حاضر إلا في محيطه الضيق الذي لا يقدر، من خلاله، على التأثير فعلياً في مجرى الحياة والتاريخ، كما هو متاح لأفراد آخرين في مجتمعات أخرى.
ولمّا كان الإنسان العربي غير حاضر إلا في محيطه الضيق، ولمّا كان لا يصارح نفسه بهامشيته ولا جدواه، فإنه قد يسعى، بكل مثابرةٍ، إلى أن يثبت، لمحيطه الضيق ذاك، أنه حاضر ومهم في كل صغيرة وكبيرة، وأنه يفهم ويعرف، وليس ثمّة من يفهم ويعرف أكثر منه، في كل حادثة مهما كانت تافهة. ألا ترى أن الناس عندنا يتنافسون في تصيّد أخطاء الآخرين؟ ذلك كي يثبتوا لأنفسم ومحيطهم أنهم أحسن وأهم ممن أخطأوا، بدليل أنهم لم يخطئوا! ثم، ألا ترى أن الناس يتسابقون للتفاخر في ما بينهم بكل ما يظنونه تميّزاً (ثراء، وظيفة عليا، شهادة..) حتى لو كان ذلك من الناحية العملية غير نافع إلا لأنفسهم؟ ذلك، أيضاً، كي يبرهنوا لأنفسهم ومحيطهم أنهم شديدو الأهمية. وتكون المحصلة أن تسود "المظاهر" مجتمعاتنا المأزومة هذه، عوضاً عن أن تسودها الحقائق!
"الأزمة" في حالة التهميش هذه التي تُبعد الفرد العربي عن المشاركة في تقرير مصيره وصنع مستقبله، لا تكمن في إهمالها طاقات الأفراد، وعدم الاستفادة منها وحسب، بل كذلك في انعكاسها السلبي على سلوك هؤلاء الأفراد؛ إذ ينطبع تجاه أقرانهم وشركائهم في الوطن والمجتمع بالغضب، والعنف المادي والمعنوي، ما يشقّ المجتمعات، ويمنع وحدتها وتكاتفها ضد الظلم، فلا يكون ممكناً عندها إقامة دول ناهضة ومجتمعات راضية ومخلصة لأوطانها.
لعل ذلك ما دفع البشرية إلى ابتكار أدواتها في تحرير الفرد من عقدة التهميش، فكانت "الدولة المدنية" التي هي دولة جميع مواطنيها: تتحدّد علاقتهم بها وعلاقاتهم في ما بينهم، عبر ثنائية القانون والمؤسسات، فيتساوون في الحقوق والواجبات وفق القانون، ويتكافأون في الفرص عبر الأطر المؤسسية التي لا تتحيز لأحد على حساب أحد، على أساس أصله أو دينه أو عرقه؛ وإنما تُفاضل بين الناس، على أساس كفاءاتهم. كذلك، كان "المجتمع الديمقراطي" الذي هو مجتمع التعدّدية القائم على احترام اختلافات الناس، وتنوع خياراتهم الحياتية، وتالياً تعدّد وجهات نظرهم ومواقفهم تجاه مختلف القضايا العامة، من دون سعي إلى تنميط الناس، وفرض مفاهيم ثقافية شمولية عليهم.
ليس ثمة طريق للتحول من "مجتمع العنف" إلى "مجتمع السلم"، ولا من "مجتمع المظاهر" إلى "مجتمع الحقائق"، إلا بتبني مفاهيم الدولة المدنية والمجتمع الديمقراطي، التي بها تعود للفرد قيمته وأهميته؛ فلا يظل مجرد رقم أو عضو في قطيع، بل يصير إنساناً فاعلاً يتجاوز "عقدة التهميش"، وتداعياتها السلبية التي تتجاوزه أفراداً، لتطاول صورة المجتمع كله، بل "فكرة المجتمع" كلها.
مثلاً، كان المفكر العربي الراحل هشام شرابي يُرجع ظواهر في المجتمعات العربية إلى أن "الجماهير" فيها محرومة اقتصادياً وجنسياً، ما يدفعها إلى تعويض ذلك الحرمان ببدائل مسلكية وعاطفية. وعلى سبيل المثال، كان يرى أن "الحماسة الدينية" تنبع من هذا الحرمان، فيجد الناس فيها ما يلهيهم عن حرمانهم.
بالضرورة، يبلغ الحرمان أقصى حالاته، حين يحس المرء بأن وجوده وعدم وجوده سيّان. لعل ذلك الشعور ينتاب بعضاً من الناس في مجتمعاتنا العربية التي تعتاش على تهميش أفرادها عبر قمع حرياتهم المختلفة، وليس حرياتهم السياسية وحسب؛ فتدفع إنسانها إلى الشعور بأنه يعيش على الهامش، وخارج التاريخ، كونه لا يشارك في صنع قراره ولا مراجعته، ولا يشارك في الحياة العامة مشاركةً مهمةً ومؤثرة، فضلاً عن أنه لا يمتلك كامل أدوات اختيار حياته الخاصة ومفرداتها.
وهكذا، يكون الإنسان العربي، في حقيقة الأمر، غير حاضر إلا في محيطه الضيق الذي لا يقدر، من خلاله، على التأثير فعلياً في مجرى الحياة والتاريخ، كما هو متاح لأفراد آخرين في مجتمعات أخرى.
ولمّا كان الإنسان العربي غير حاضر إلا في محيطه الضيق، ولمّا كان لا يصارح نفسه بهامشيته ولا جدواه، فإنه قد يسعى، بكل مثابرةٍ، إلى أن يثبت، لمحيطه الضيق ذاك، أنه حاضر ومهم في كل صغيرة وكبيرة، وأنه يفهم ويعرف، وليس ثمّة من يفهم ويعرف أكثر منه، في كل حادثة مهما كانت تافهة. ألا ترى أن الناس عندنا يتنافسون في تصيّد أخطاء الآخرين؟ ذلك كي يثبتوا لأنفسم ومحيطهم أنهم أحسن وأهم ممن أخطأوا، بدليل أنهم لم يخطئوا! ثم، ألا ترى أن الناس يتسابقون للتفاخر في ما بينهم بكل ما يظنونه تميّزاً (ثراء، وظيفة عليا، شهادة..) حتى لو كان ذلك من الناحية العملية غير نافع إلا لأنفسهم؟ ذلك، أيضاً، كي يبرهنوا لأنفسهم ومحيطهم أنهم شديدو الأهمية. وتكون المحصلة أن تسود "المظاهر" مجتمعاتنا المأزومة هذه، عوضاً عن أن تسودها الحقائق!
"الأزمة" في حالة التهميش هذه التي تُبعد الفرد العربي عن المشاركة في تقرير مصيره وصنع مستقبله، لا تكمن في إهمالها طاقات الأفراد، وعدم الاستفادة منها وحسب، بل كذلك في انعكاسها السلبي على سلوك هؤلاء الأفراد؛ إذ ينطبع تجاه أقرانهم وشركائهم في الوطن والمجتمع بالغضب، والعنف المادي والمعنوي، ما يشقّ المجتمعات، ويمنع وحدتها وتكاتفها ضد الظلم، فلا يكون ممكناً عندها إقامة دول ناهضة ومجتمعات راضية ومخلصة لأوطانها.
لعل ذلك ما دفع البشرية إلى ابتكار أدواتها في تحرير الفرد من عقدة التهميش، فكانت "الدولة المدنية" التي هي دولة جميع مواطنيها: تتحدّد علاقتهم بها وعلاقاتهم في ما بينهم، عبر ثنائية القانون والمؤسسات، فيتساوون في الحقوق والواجبات وفق القانون، ويتكافأون في الفرص عبر الأطر المؤسسية التي لا تتحيز لأحد على حساب أحد، على أساس أصله أو دينه أو عرقه؛ وإنما تُفاضل بين الناس، على أساس كفاءاتهم. كذلك، كان "المجتمع الديمقراطي" الذي هو مجتمع التعدّدية القائم على احترام اختلافات الناس، وتنوع خياراتهم الحياتية، وتالياً تعدّد وجهات نظرهم ومواقفهم تجاه مختلف القضايا العامة، من دون سعي إلى تنميط الناس، وفرض مفاهيم ثقافية شمولية عليهم.
ليس ثمة طريق للتحول من "مجتمع العنف" إلى "مجتمع السلم"، ولا من "مجتمع المظاهر" إلى "مجتمع الحقائق"، إلا بتبني مفاهيم الدولة المدنية والمجتمع الديمقراطي، التي بها تعود للفرد قيمته وأهميته؛ فلا يظل مجرد رقم أو عضو في قطيع، بل يصير إنساناً فاعلاً يتجاوز "عقدة التهميش"، وتداعياتها السلبية التي تتجاوزه أفراداً، لتطاول صورة المجتمع كله، بل "فكرة المجتمع" كلها.