عن السوري الذي نجا من الموت مرتين

21 مايو 2015
+ الخط -
يخرج من الفندق في أحد أزقة مدينة أزمير التركية، والتي تعتبر نقطة البداية لمشوار الحلم المنشود؛ يخرج بخطى قلقة ترسم تحرّكاتها تحذيرات من عيون المخبرين لحرس الحدود التركي، والذين قد يشكّكون في أنه يحاول هجرةً غير شرعية، عبر البحر الذي يفصل تركيا عن جزر اليونان، فيما يأخذه "صبيان" المهرّب العربي، الوسيط لدى المهرب التركي في رحلته القلقة، مئات الأمتار بعيداً عن الفندق، ليقوموا بتكديس المهاجرين في سيارة مغلقة بلا مقاعد.. تتعالى احتجاجات بسبب ضيق المكان، يقسم الصبي بأغلظ الأيمان أن مدّة الرحلة في هذه السيارة لن تتجاوز 20 دقيقة، ليصل الجميع إلى الهدف، ونقطة الانطلاق عبر البحر الواسع.
هي دقائق طويلة.. لا تمضي بالسرعة التي أخبرهم عنها ذلك "الشغيّل"، بالرغم من سرعة السيارة الفائقة التي أحس في لحظة طويلة أنها لن توصله إلى البحر، وأن الأمر سينتهي به براً!

وصلت السيارة، وأمروا بالنزول بسرعة فائقة إلى الوادي، داخل غابة كثيفة لا يكشفها إلا ضوء القمر، في تلك الليلة الدافئة، حسبما وصفها أحد الركاب في السيارة.. السجن..
كان البحر هادئاً جداً، وسرعة الرياح تكاد تكون معدومة.. هكذا اعتاد كلّ من يريد أن يمتطي البحر هارباً باتجاه الغرب؛ ليس بوسعه إلا أن يراقب حركة البحر والنشرة الجوية كلّ يوم، كي تكون الرحلة آمنة إلى أقصى حدّ ممكن.

بالسرعة القصوى.. يرتدي الجميع سترات النجاة من موت البحر، بانتظار وصول الدفعة الثالثة، فيستلقي على العشب اليابس، والأغصان المتكسرة بفعل الرياح في الشتاء.

يمرّ شريط الذكريات سريعاً في تلافيف دماغه المثقلة بالأفكار.. طريق طويل من الانكسارات أوصله إلى هنا، في غابة على شاطئ البحر، محشوراً في سترة نجاة من بحر غادر.. مظاهرات.. شعارات.. هتافات.. أغنيات.. سباب.. شتائم.. بحقّ نظام احترف الموت والقتل، يمرّ كل هذا سريعاً، ليقف فجأة شريط الذكريات أمام مشهد غرفة التحقيق في فرع أمن الدولة الذي اعتقله في صباحٍ قال فيه "الله ينجينا من آت".

أسئلة كثيرة.. تلعثم في الإجابات.. والمحقق يبتسم بأسنان صفراء لم يشاهدها بسبب العصابة على عينيه، لكنه تخيلها تنغرز في لحمه، مع كل سؤال وتهديد بالتعذيب. تختلط الإجابات بين الخوف والشجاعة، بين الكذب والصدق، بين الموت والحياة..

في اللحظة التي بصم فيها بإبهامه، على ورقة قيل إنّها محضر التحقيق، أحسّ أنه ما زال على قيد الحياة إلى حين.. عندما رمي به داخل زنزانة ضيقة، ليرتمي جسده على أكداس لحم من ينتظرون دورهم، في برزخ التحقيق بين الحياة والموت.

لم يستطع أن ينبس ببنت شفة، ظلّ صامتاً، بصره شاخصٌ نحو الوجوه التي أحس لوهلةٍ أنها جميعاً تشبه وجهه، وكأنه أمام مرآة تسجّل تجاعيد الانتظار، واصفرار البشرة.. تارة من خوف يسكن الروح.. وتارة بسبب احتجاب نور الشمس عن الأجساد الهزيلة..

صوت ما.. يقطع شريط الذكريات المؤلمة، يشبه إلى حدٍّ بعيد صوت عناصر الأمن، يتكلم العربية بطريقة سيئة جداً، يقول: "من يخاف اجتياز الغابة، فلا ينزل معنا".

هو تحذير بلهجة الأمر، أي لا اعتراض على ما يحدث.. وبدأت رحلة اجتياز الغابة في عتمة كاملة، بعد أن حجبت الأشجار العالية ضوء القمر الذي قد يوضح معالم طريق المسير.. سلسلة بشرية تمسك ببعضها البعض، خوفاً من الانزلاق إلى الوادي المحاذي للطريق. 
حفر أوقعت بعضهم أرضاً، كادت أن تقتل أحدهم، تلك المرأة الخائفة.. تحمل طفلها ذا الأشهر المعدودة، وزوجها يحمل طفلته ذات السنوات الثلاث، وهو يتكلم بلهجته الفلسطينية التقليدية، ينشد المساعدة ممن حوله..

فيما بدأ ذلك الخمسيني الذي ترافقه زوجته وابنه، باللهاث الشديد، فعلى الرغم من مرضه الشديد، وتعرّضه لإجراء جراحة "شبكة في شرايين القلب" قبل أسبوعين كان هنا. أما الرجل الستيني، فمتحفز للوصول إلى شاطئ البحر، غير آبه بما قد يحصل.. أعتقد أنه كان الوحيد الذي يغامر بحياته من أجل الهروب من ذاك الموت المنتصب أمام عينيه، ليرى أمامه عشرات الأرواح التي تغامر بموت هرباً.. من موت..

انتهى طريق الغابة الوعر، ليبدأ طريق الجرف الصخري الأملس، وهنا الحذر أوجب، فالسقوط يرافقه موت مؤقت أو موت نهائي..

جلس الجميع في انتظار مركب الأحلام الذي سيوصلهم إلى الضفة الأخرى.. ضفة الحياة الثانية .. ضفة الأمل في الوصول عبر مساحة البحر الغادر والقادر.. دقائق طويلة تجاوزت حدود الساعة من الانتظار.. الصمت يخيّم على المكان.. والقمر دخل بيته البحري..

هو الصوت ذاته الذي أمر بالنزول إلى الغابة، يأمر بالصعود إلى المركب.. هي المرة الأولى التي يعرف فيها أن المراكب ليست للسياحة فقط.. وإنما للتهريب!

مركب مهترئ قيل لهم إنه يجب أن يحطموه عند وصولهم إلى السواحل اليونانية، وإلا تمّت إعادتهم به إلى تركيا، أما قائد المركب، وهو أحد الهاربين، فلا يعرف الفرق بين مقود السيارة ومقود المركب، وبدفعة من أيدي تجار البشر.. بدأ المركب بالتحرك، وأقلع المحرّك، معلناً بدء رحلة بحرية نحو الغرب، فلا عودة بعد الآن!

تسمع أصوات اختلفت في ما بينها حول طريقة القيادة، ليعلن القائد أن المحرك قد تعطل، ويجب
الاتصال فوراً بحرس السواحل التركية..

ساعتان من الخوف لازمتا ركّاب الرحلة، ودموع الأم تحتضن طفلها، وتكتم صوت النشيج،
خوفاً من موت أولادها؛ ساعتان كانتا كافيتين ليحتفل كل شخص على هذا المركب بطقوس موته على طريقته.. ساعتان من ألم نهاية الحياة..

هو السوري الذي نجا من الموت عندما خرج من المعتقل، أو ربما كان بعيداً عن مكان سقوط البراميل وصواريخ الطائرات.. أو من لم يستنشق الكيماوي.. ذاته السوري الذي نجا من الموت الآخر، عندما وصل الشاطئ، بعد رحلة بحرية سواء أكان الاتجاه إلى الشرق أم الغرب..

(سورية)
المساهمون