عن الخطوط الحمراء والأضواء الخضراء في ليبيا
برزت فجأة حكاية "الخطوط الحمراء" التي ترسمها هذه الجهة أو تلك في المشهد الليبي الملتبس، بما يشي أن المنطقة على حافّة صدام واسع، قد يخرج من نطاقه المحلي الذي استمر سنواتٍ في شكل حرب داخلية بالوكالة، إلى إمكانية حدوث صدام إقليمي بين القوى الداعمة، غير أن المثير في حكاية الخطوط الحمراء تلك أنها تخفي وراءها عوالم كاملة من أضواء خضراء أيضا، تطلقها القوى العظمى لهذه الجهة أو تلك من القوى المحلية والإقليمية، بغرض التحرّك أو الاستعراض أو إطلاق التصريحات العنترية.
بدأت عملية رسم الخطوط الحمراء في 6 يناير/ كانون الثاني 2020، عندما أعلن الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، أن العاصمة طرابلس خط أحمر لا يمكن تجاوزه، لأن انهيارها يعني انهيار الدولة في ليبيا. وقتها كان الهجوم الحفتري على طرابلس على أشدّه، ولم تكن مليشيات "عملية الكرامة" التي تتبع اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، تبتعد عن الساحة الخضراء سوى ببضع كيلومترات، ولم يمر وقت طويل، حتى تبين أن "الخط الأحمر" الجزائري بقي ضمن دائرة التصريحات الدبلوماسية العابرة، إلى أن جاء التدخل العسكري التركي، ليرسم هذا "الخط الأحمر" بالقوة وليس بالكلام، من دون أن يكتفي برسمه عند الحدود الإدارية لطرابلس، بل قلب المعادلة رأسا على عقب، ليرتدّ اتجاه الخط الأحمر ناحية الشرق، بعيدا عن مصراتة.
"الخط الأحمر" المتفق عليه دولياً وإقليمياً هو على الدولة الديمقراطية التي يتولى فيها الشعب السيادة على مقدّراته
هنالك، وبعد اندحار قوات حفتر، وانهيار منظومة بانتسير الروسية في مواجهة طائرات البيرقدار التركية، وقف الحاكم العسكري لمصر، عبد الفتاح السيسي، ليعلن خطه الأحمر الخاص به، على حدود سرت الجفرة، على بعد أكثر من ألف كيلومتر عن الحدود المصرية، ليختلط معها أمر الأمن القومي لمصر الدولة، مع الأمن القومي للنظام العسكري الذي يعيش أزمات حادّة، ويريد تصديرها إلى الخارج ناحية الغرب البعيد، متناسيا الخطر القادم من الجنوب، حيث سد النهضة الذي يهدد مصر بالجفاف. أما الخطر القادم من الشرق، فيبدو أنه يتم معالجته على طريقة أنور السادات العام 1977 عندما هاجم ليبيا بهدف "تأديب" معمر القذافي، ولم يتوقف إلا بعد تدخل الرئيس الجزائري هواري بومدين، بكل ثقله في القضية.
وعلى ما يبدو، إن ما قيل عن الخط الأحمر الجزائري الذي اختزل في الكلام، واحتاج القوة العسكرية التركية لترسيمه بعيدا عن طرابلس بأكثر من 450 كلم على تخوم سرت، سينطبق على الخط الأحمر المصري أيضا، حيث تلوح ملامح القوة الروسية (وخلفها الفرنسية) لترسم خرائطه على طول 650 كلم الرابطة بين سرت والجفرة. وهو الخط الذي تحتدم فيه المصالح الجيوسياسية بشكل كبير، والذي إما أن ينتهي بتسوياتٍ دوليةٍ متفاوض عليها، تضمن مصالح المتصارعين الكبار، خصوصا في مجالات النفط، أو أن تؤدّي إلى صدام كبير، قد تكون فيه ليبيا، بأقاليمها التاريخية الثلاث، طرابلس وبرقة وفزان، أمام تحدّي التقسيم وإعادة التشكيل، وفق خرائط جديدة.
"الضوء الأخضر" الوحيد الذي يعتد به هو ناحية الدعم الجنوني الواضح لتشكيل ديكتاتورية عربية جديدة
قبل ذلك، وقبل هذه "الخطوط الحمراء" العربية التي هي أشبه بالرسم على كثبان الرمل، سرعان ما تمحوها الأمواج العاتية، كان لا بد من لعبةٍ أخرى وبلونٍ آخر، فقد احتاج الهجوم البرّي الكبير لقوات حفتر على طرابلس قبل عام في 4 إبريل/ نيسان 2019، إلى "ضوء أخصر" أميركي، بوساطة إماراتية مصرية سعودية. وبعد مرور سنة من دون تحقيق الحسم المطلوب، على الرغم من نشاط الوسطاء الخليجيين في تهيئة الأجواء له، إلى الحد الذي تحادث فيه رئيس أقوى دولة هاتفيا، مع أفشل جنرال على وجه الكرة الأرضية، وجدت واشنطن نفسها مضطرّة لأن تمنح "الضوء الأخضر" في الاتجاه المعاكس لتركيا للتدخل عسكريا إلى جانب حكومة الوفاق، بعد أن تعاظم الدور الروسي، وافتضحت لعبة مرتزقة فاغنر التي بدأت من قاعدة الجفرة لينتهي بها المطاف أخيرا عند حقل الشرارة النفطي.
إنه سباق محموم ضد الساعة، من أجل السيطرة على منابع الطاقة في المنطقة، حقول النفط في الصحراء، وحقول الغاز في عرض المتوسط، والخطوط الحمراء التي تتخللها أضواء خضراء وأخرى برتقالية، تذهب بعيدا فوق كثبان رمال الصحراء، إلى غاية أعماق البحر المتوسط. إنها في الواقع خطوط مجنونة، تحمل هنا ألوانا زرقاء كلون البحر، تجعل من مصر وإسرائيل واليونان حلفاء في البحر ضد تركيا، كما تجعل من مصر والإمارات وكذا روسيا وفرنسا حلفاء في الصحراء ضد تركيا أيضا (ولكن بمرافقة أميركية أوروبية من بعيد)..
تكفلت فرنسا بالعمل على إعادة تشكيل الموقفين، الجزائري والتونسي، ورسم خطوط حمراء لهما، بما يتوافق والدور المصري الصريح والعلني
اللعبة الاستعمارية القديمة ذاتها تتم هنا بحذافيرها، من أجل النفط واستمرار السيطرة على شعوب المنطقة، ومنعها من التحرّر، تتم كل هذه الخطط والخطوط، وقد أظهرت التطورات أخيرا بعد أن لاحت دلائل الهزيمة الحفترية، اتجاهات اللعبة الجديدة التي يُراد لها أن تمنع حكومة الوفاق من جني ثمار انتصاراتها، عبر منعها من الوصول إلى منابع النفط والموانئ النفطية. لذلك اتضح أن الخط الأحمر المصري ما كان ليُعلن بتلك الطريقة الاستعراضية لولا الضوء الأخضر الروسي، في حين تكفلت فرنسا، باعتبارها القوة الاستعمارية السابقة، بالعمل على إعادة تشكيل الموقفين، الجزائري والتونسي، ورسم خطوط حمراء لهما، بما يتوافق والدور المصري الصريح والعلني.
كانت تصريحات الرئيس التونسي، قيس سعيد، الصادمة في باريس، أخيرا، أولى ثمار الضغط الفرنسي على دول الجوار المغاربية، لكي تنخرط في منظومة الخطة الجديدة، والتي كانت ملامحها واضحة في اعتبار سعيّد حكومة الوفاق بأنها تحظى بشرعيةٍ دوليةٍ مؤقتةٍ، يجب استبدالها.. وكان لافتا هنا طرح فكرة إشراك القبائل الليبية في الحل، كما أعلنت القاهرة بالضبط.
المثير أن الجزائر أيضا التي ظلت تحتفظ بمسافةٍ واحدةٍ عن فرقاء الأزمة الليبية، وتطرح نفسها أكثر الجهات مصداقيةً لقيادة حوار ليبي ليبي، بدأت مواقفها تتغير بطريقة دراماتيكية، بالطريقة نفسها التي تغيرت بها مواقف تونس، عبر تصريحات قيس سعيد. ولعل في الارتباك الواضح الذي كشفت عنه بيانات رئاسة الجمهورية الجزائرية، عبر وكالة الأنباء الجزائرية، بعد الاتصال الهاتفي أخيرا بين الرئيسين، تبون وماكرون، ما يفسر ذلك بجلاء، حيث ذكر بيان أول "تطابق" وجهات النظر الفرنسية الجزائرية بشأن الملف الليبي، قبل أن يتم تعديل البرقية عبر وكالة الانباء الجزائرية، والحديث عن "توافق" في الموقفين، الفرنسي والجزائري، وهو ما لم يكن من قبل أبدا، فلم يحدُث أن تطابق الموقف الجزائري المحايد في الموضوع الليبي، أو توافق، مع الموقف الفرنسي المنخرط بشكل سافر مع طرفٍ ضد طرفٍ آخر، الأمر الذي تمت قراءته بأنه موقف مفاجئ، يتناغم والموقف التونسي الواقع تحت "الإكراهات" الفرنسية، علما أن الجزائر أيضا كان لها موقفٌ مؤيدٌ لدور القبائل في ليبيا الجديدة، وقد تأكد ذلك بعد استقبال الرئيس تبون في 13 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) رئيس البرلمان في طبرق، عقيلة صالح، الذي يمثل البديل القبلي، عوض استقبال الجنرال المهزوم حفتر.
اتضح أن الخط الأحمر المصري ما كان ليُعلن بتلك الطريقة الاستعراضية لولا الضوء الأخضر الروسي
ولا يمكن قراءة اتفاق دول الجوار، مصر والجزائر وتونس، وتوافقها، على الدور المحوري للقبائل الليبية في كتابة الدستور الليبي المقبل، وفي توزيع السلطة في مؤسسات الدولة الجديدة، إلا بأنه "ضوء أخضر" من القوة النافذة المتحكّمة في مصائر الشعوب. وهنا تبدو المعادلة مثيرةً للسخرية فعلا، كيف تتوافق القوى الدولية التي تحكمها المؤسسات على فكرة استدعاء العامل القبلي في تشكيل الدولة، بعد فشل خيار الدولة العسكرية الذي دعمته من قبل أيضا، ومن ثمّة الدفع به بديلا متخلفا لبناء الدولة الحديثة؟! هذا يعني أن أميركا التي تستخدم الآن قوة "أفريكوم" كرمانة ميزان في هذا الصراع، هي مثل روسيا وفرنسا.. ومعها منظومات الحكم العربية الشمولية في المنطقة، يهمها كثيرا، إلى جانب منع المنافسين من الاستحواذ على مجمل "الطورطة" (الكعكة) الليبية، كسر التجربة الديمقراطية في ليبيا التي لاحت معالمها بعد الثورة على القذافي عقب الانتخابات المحلية والبرلمانية التي جرت، ويهمها أكثر ألا تصل في بلد نفطي مثل ليبيا قوى الثورة والثوار التي بينهم "الإخوان المسلمون" إلى سدة الحكم وفق آليات الديمقراطية (النموذج التركي)، حتى لا يكون نموذجا في الحكم.. وحتى تستمر عملية استنزاف الثروة النفطية خارج دائرة المراقبة والمساءلة.
على هذا، ليست "الخطوط الحمراء" المعلنة، ولا "الأضواء الخضراء" التي رافقتها، إلا أوهاما كبيرة لخطف الأذهان، ذلك أن "الخط الأحمر" الوحيد المتفق عليه دوليا وإقليميا هو على الدولة الديمقراطية التي يتولى فيها الشعب السيادة كاملةً على مقدّراته وثرواته. أما "الضوء الأخضر" الوحيد الذي يعتد به هو ناحية الدعم الجنوني الواضح لتشكيل ديكتاتورية عربية جديدة، تكون بديلا عن ديكتاتورية القذافي. ولذلك يكثر الحديث عن القبائل وعن سيف الإسلام القذافي وعن حفتر وعن عقيلة صالح، ويتراجع في المقابل، إلى حد العدم، الحديث عن دولة المؤسسات.
الدولة الديمقراطية الحرّة في إرادتها والمتحكّمة في ثرواتها هي الخط الأحمر الوحيد والحقيقي الذي ترسمه القوى الدولية المسيطرة لتضمن استمرار مصالحها الاقتصادية واقتسام الريوع في كامل الوطن العربي، وليس في ليبيا وحدها. ولذلك ستكون معركة استعادة سرت والجفرة، العمق الاستراتيجي لإقليم فزّان الغني حاسمةً في ترجيح كفة هذا الطرف أو ذاك، قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
وعليه، واضحٌ أن الخط الأحمر الوحيد، الممنوع الذي لا يمكن تجاوزه، هو أن تمتلك شعوب المنطقة مصيرها وثروتها، والباقي كله قابلٌ للنقاش والتفاوض وللأضواء الخضراء والصفراء والبرتقالية بدايةً بالتقسيم، وإلى غاية تشكيل دويلات هجينةٍ أو عسكريةٍ أو قبليةٍ تكون بمقدورها في أي لحظةٍ أن تحيي أمجاد "داحس والغبراء" في الحروب البينية العبثية، خدمةً لمشروع التبعية والتخلف الخلاق.