عن التلفزة المغربية والمسؤولية الإعلامية
لكن، عندما يكون الإعلام في بلد ما تزال الديمقراطية فيه كلمة يزيّن بها الساسة كلامهم، وتفوح بعطرها في صالوناتهم المخملية، وتضفي بجمالها على قبح برامجهم السياسية، وعلى جوادها يمر الدستور الممنوح كالبرق، وتحت عباءتها تحاك حكومات صورية، فطبيعي أن يكون الإعلام قطاعاً متهالكاً، ولا يؤدي الرسالة المنوطة به.
في ظل هذا المعطى، قنوات القطب العمومي المتمثلة في القنوات التلفزية التابعة للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، وقناة دوزيم التابعة لشركة صورياد، وقناة ميدي 1 تي في، ووكالة المغرب العربي للأنباء، ليست استثناء، نظراً لغياب استراتيجية واضحة في المشهد الإعلامي المغربي. وإذا تصفحنا تاريخ السياسات الإعلامية في المغرب، نلاحظ ونلمس الهاجس الأمني وهو يحضر باستمرار في تسيير هذا القطاع الحيوي، ويبرز جلياً من خلال الرجالات الذين كانوا يتحكمون في زمام الإعلام التلفزي، والذي يعتبر الأهم في المشهد، فمنذ أواسط الثمانينات، والقطب العمومي يتبع ضمنياً وزارة الداخلية، في إشراف رجالات سلطة وإعلاميين موالين لرجال دولة عليه.
هذا التحكم الأمني والإداري قاد الإعلام العمومي إلى التعتيم على الشعب المغربي، وتوظيفه سياسياً، يتجلى هذا في التغييب الكامل للأحداث والتطورات التي تقع في البلد، والتي لا تخدم مصالح المخزن، ما حوّل الإعلام إلى بوق لتمرير سياساته، وإلى الإغراق في البرامج والأفلام غير المفيدة.
ويتجلى التعتيم والتوظيف السياسي جلياً في الخط التحريري الذي يتبناه الإعلام المغربي، فالمتتبع للتلفزة المغربية يلاحظ عشوائية في انتقاء الأخبار التي توافق المتحكمين في دواليب الدولة والإعلام، فنوعية الأخبار المقدمة على قنوات القطب العمومي لا تعتمد على الاحترافية والصدقية، وما يخضع له من معايير متعارف عليها في أعراف الصحافة، بل يخضع الخبر للتقلبات والظروف السياسية المحيطة والمؤثرة في الواقفين وراء هذه الوسائل، وقد يقوم بإهمال وتعتيم على أحداث ووقائع مهمة داخل البلد، ويقدم عليها أخباراً تتعلق بالفن أو الرياضة، أو تتعلق بدول أميركا اللاتينية أو أفريقيا. ويعطى الأخبار التافهة أو غير المؤكدة حجماً إعلامياً كبيراً وحيزاً زمنياً رهيباً، غالباً بغرض تصفية حسابات سياسية وأيديولوجية. ولنا مثال التعامل مع وفاة زعيم جماعة العدل والإحسان في الإعلام العمومي بإدراج خبر مقتضب، لا يعكس مكانة الأستاذ، وزخمه الفكري وأعماله الجليلة التي قدمها طوال حياته، وفي النقيض إعطاء حيز زمني أكبر من اللازم لشاب حاز جائزة في "الغناء" استضافة مباشرة ونشرات مصاحبة لهذا الحدث.
هذا مجرد مثال بسيط للتوظيف السياسي والأيديولوجي، ولتوجيه أنظار المشاهدين إلى قضايا تافهة، فتنتفي بذلك الصدقية والموضوعية من النشرات الإخبارية لإعلامنا العمومي، على مستوى باقي البرامج، فإذا كانت الرسالة الإعلامية حاملة وظائف تربوية وتثقيفية وترفيهية واجتماعية، تسعى إلى بلورتها في جدولة الأعمال على القنوات، وتكون في مستوى طموح المشاهد، فالقطب العمومي لا يمتلك أية رؤية من هذا الجانب، ويظهر هذا جلياً في إغراق التلفزة المغربية ببرامج غنائية وموسيقية ومسابقات في هذا المجال، تأخذ حيزاً زمنياً يستمر أسابيع عدة، وما يتطلب من إعلانات كل أسبوع، ويوميات تأخد حصة الأسد في أوقات الذروة، وأفلام ومسلسلات أجنبية من مختلف الدول.
وحتى البرامج الاجتماعية والحوارية والشبابية في الإعلام العمومي لم تكن استثناء من القاعدة، ولعل المتتبعين، في السنوات الأخيرة، يلاحظوا توجه شركات الإنتاج إلى برامج أصبحت تأخد من معاناة الشعب المغربي مادة إعلامية لبرامجهم في ضرب واضح للرسالة الإعلامية النبيلة، وبدأت تولد برامج كثيرة من هذا القبيل، وتشتغل في الاتجار في أعراض الناس من نزاعات زوجية وعائلية ومواضيع أخرى من رحم معاناة الشعب، وهي محصلة عقود من الاستبداد والقهر والأمية المفروضة على المغاربة، ويفسر تحول شركات الإنتاج المغربية إلى مثل هذه البرامج، نظراً إلى التكلفة القليلة التي تتطلبها، وتستهوي المشاهدين.
في الأخير، يظهر من هذا كله أنه لا يمكن للقطب العمومي التطور والازدهار، من دون أن تكون إرادة سياسية حقيقية لتجاوز هده العوائق، بإصلاح عميق يبدأ بحوار وطني، يجمع جميع الساسة وفضلاء البلد، للخروج بمشروع مجتمعي، يجيب على جميع إشكالات البلد وليس المشهد الإعلامي فقط، وإنما في جميع المجالات، والإصلاحات الجزئية لكل قطاع ومن أطراف منفردة، لا يمكن أن يوصل إلى نتيجة، وبتكاثف الجهود وبلورة ميثاق وطني يخرجنا من الإصلاحات الشكلية الصورية إلى الإصلاح البنيوي العميق والارتقاء بالبلد إلى الأفضل.