عن التجربة الألمانية في مواجهة الفيروس

09 ابريل 2020
+ الخط -
لا تتوقف الإشادة الدولية بالتجربة الألمانية في مواجهة فيروس كورونا، فحتى كتابة هذا المقال، تمتلك ألمانيا السجل الأفضل بين الدول الغربية والكبرى في التعامل مع الفيروس، بنسبة وفياتٍ لا تتعدى 1.2% من إجمالي المصابين، مقارنة بنسبة 2.7% في الولايات المتحدة، و4.1% في الصين، و8.4% في فرنسا، و9.4 في إسبانيا، و10.3% في بريطانيا، و12.3 في إيطاليا. ويمكن تفسير انخفاض نسبة ضحايا الفيروس في ألمانيا مقارنة بالدول الأخرى بعوامل يرتبط بعضها بالمصادفة، ككون متوسط أعمار المصابين بالفيروس في ألمانيا (49 عاما) أقل من متوسط أعمار المصابين في دول أخرى كإيطاليا (62 عاما) وفرنسا (62.5 عاما). ولأن ألمانيا أكثر نشاطا في فحص المصابين بالفيروس مقارنة بالدول الأخرى، وهو ما يجعل أعداد المصابين فيها أكبر من الدول الأخرى، فألمانيا تفحص أعدادا أكبر من المصابين، بما في ذلك من لا تظهر عليهم أعراض قوية للفيروس، فيما تختبر الدول الأخرى من تظهر عليهم أعراض واضحة للفيروس، أو تتدهور حالتهم الصحية. وهذا يعني أن ألمانيا تضم بين عدد مرضاها أعدادا كبيرة من أصحاب الأعراض الضعيفة والمتوسطة، مقارنة بالدول الأخرى التي ترصد الحالات الأكثر تدهورا، وأن ألمانيا قد تتعرّض في الأسابيع المقبلة لتحدّيات أكبر مع انتشار الفيروس داخلها، ووصوله إلى فئات عمرية أكبر، وإلى أصحاب الأمراض المزمنة.
ولكن المصادفة وحدها لا تكفي لتفسير أسباب نجاح التجربة الألمانية في التعامل مع كورونا حتى تاريخه، فألمانيا تملك استراتيجية تبدو أكثر جدّية في التعامل مع الفيروس، مقارنة بدول أخرى أكثر ثراء كالولايات المتحدة، ودول تفتخر بقطاعها الصحي العام كبريطانيا. ويمكن الإشارة إلى ثلاثة عناصر أساسية لتلك الاستراتيجية:
أولا: تعاملت ألمانيا مع الفيروس بجدّية منذ البداية، من خلال استراتيجية تستعد للسيناريو الأسوأ وتتوخّى الحذر، فبريطانيا مثلا ظلت حتى منتصف مارس/ آذار تتبع استراتيجية تقلل من 
الفيروس وتبعاته، وهي استراتيجية سميت "مناعة القطيع"، وتقوم على فكرة أن الفيروس لا بد من أن ينتشر في أوساط البريطانيين، وأنه يجب عدم المبالغة في أسلوب التعامل معه حتى لا يتأثر الاقتصاد. وبناء عليه، قرّرت الحكومة البريطانية ترك الحياة تسير على طبيعتها، والاستعداد للتعامل مع الإصابات الأكثر سوءا في مستشفيات التأمين الصحي البريطانية والتي وفرت عددا محدودا من اختبارات الكشف على الفيروس، وتركتها للحالات الأكثر تدهورا. وهي استراتيجيةٌ تراجعت عنها الحكومة البريطانية، بعد أن كشفت دراسة لجامعة بريطانية أنها سوف تؤدي إلى وفاة ربع مليون بريطاني. وينطبق السيناريو نفسه تقريبا على الولايات المتحدة التي حرص رئيسها، دونالد ترامب، على التقليل من الفيروس وتبعاته في بداية الأزمة، حتى تحولت بلاده إلى بؤرة لانتشار الفيروس في العالم.
أما ألمانيا فقد استعدت منذ منتصف يناير/ كانون الثاني من خلال إعداد اختبار للكشف عن الفيروس قبيل وصوله إلى أراضيها، ووزعت تركيبته على عشرات المختبرات في كل ألمانيا، وقامت هذه بالاستعداد. ولما اكتشفت أول حالات الإصابة بالفيروس في فبراير/ شباط، كانت السلطات الألمانية الصحية قد استعدّت بأعداد كبيرة من الاختبارات، وبدأت في تطبيقها على نطاق واسع. وحتى كتابة هذا المقال، أجرت ألمانيا 918 ألف اختبار للكشف عن الفيروس، مقارنة بحوالي 675 ألف اختبار في إيطاليا (سرّعت أخيرا من وتيرة إجراء الاختبارات بعد تفشّي الوباء فيها)، و355 ألفا في إسبانيا، و224 ألفا في فرنسا، و183 ألف اختبار فقط في بريطانيا. وهذا يعني أن ألمانيا أجرت خمسة أضعاف ما أجرته بريطانيا التي تفتخر بقطاعها الصحي، من اختباراتٍ للكشف عن الفيروس. وتواجه بريطانيا حاليا صعوباتٍ جمّة في زيادة أعداد الاختبارات التي تجريها، لأن التأخر في إعداد تلك الاختبارات، وتوفير المواد اللازمة لإجرائها، أدخلا بريطانيا في تنافس حادّ مع بقية الدول الساعية إلى الحصول على المواد نفسها في الفترة الحالية.
أضف إلى ذلك أن ألمانيا وفرت الاختبارات لأكثر من مائة مختبر في مختلف أنحاء البلاد، بما في ذلك مختبرات خاصة وعيادات صغيرة، ما جعلها قادرةً على إجراء الاختبار لأكبر عدد من الناس، على خلاف ما حدث في بريطانيا وأميركا في بداية الأزمة، حيث تم تركيز الاختبارات في مؤسسات صحية مركزية قبل السعي إلى الاستعانة بالقطاع الخاص بعد استفحال الأمور.
ثانيا: اهتمام ألمانيا بالقطاع الصحي ليس وليد اللحظة، إذ تعد الحكومة الألمانية الأكثر إنفاقا على 
الرعاية الصحية لمواطنيها مقارنة بالدول الغربية الأخرى، فيما عدا الولايات المتحدة، والتي تترك ملايين من مواطنيها بلا تأمين صحي. ففي عام 2018، أنفقت ألمانيا حوالي ستة آلاف دولار سنويا في المتوسط على الرعاية الصحية لكل مواطن ألماني، مقارنة بحوالي خمسة آلاف دولار في فرنسا، وأربعة آلاف دولار في بريطانيا، و3.4 آلاف دولار في إيطاليا. ولا يتفوق على ألمانيا إلا الولايات المتحدة التي أنفقت حوالي 10.5 آلاف دولار في المتوسط، ولكن أميركا تتبنى نظاما صحيا رأسماليا يوفر الرعاية الصحية للمواطنين من خلال أماكن عملهم بالأساس، ويترك 27.5 مليون أميركي بلا تأمين صحي. وهو ما انعكس على عدم توفر اختبارات الكشف عن الفيروس للأميركيين في بداية الأزمة، قبل أن تتحرّك الحكومة وتجعلها مجانية. أما ألمانيا فقد وفرت الاختبارات مجانية منذ البداية، مستفيدة من نظامها الصحي الشامل، ما سمح بالتوسع في إجراء اختبارات الكشف على الفيروس وسط مواطنيها.
يظهر التفوق الألماني في الإنفاق الصحي أيضا في عدد أسرّة المستشفيات المتاحة لمواطنيها، حيث وفرت في عام 2017 ما يعادل ثمانية أسرّة لكل ألف مواطن، مقارنة بستة في فرنسا، وثلاثة في إيطاليا، و2.7 في أميركا، و2.5 في بريطانيا. وهو ما انعكس أيضا على عدد وحدات العناية المركزة وأجهزة التنفس الصناعي، حيث تملك ألمانيا عشرين ألف جهاز تنفس صناعي مقارنة بثمانية آلاف فقط في بريطانيا، كما بدأت ألمانيا في طلب آلاف من الأجهزة الجديدة قبل بريطانيا بأسابيع، فيما لم تبدأ الأخيرة في طلب مزيد من الأجهزة قبل منتصف مارس/ آذار.
ثالثا: ارتبطت استراتيجية ألمانيا في التعامل مع الفيروس بثقافةٍ سياسيةٍ وأداء حكومي أكثر التزاما وحرفية، حيث تمتدح الصحف البريطانية والأميركية أداء المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، الهادئ والواضح منذ بداية الأزمة، والتفاف الشعب الألماني حولها، والتزامه بتعليمات حكومتها. في المقابل، أدّى غموض سياسة رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، في بداية الأزمة، 
لبلبلة البريطانيين الذين لم يلتزموا بمطالب العزل والتباعد الاجتماعي، ما دفع الحكومة إلى إعلان إجراءات حظر أكثر تشدّدا. وتشهد بريطانيا حاليا موجة معارضة شعبية وإعلامية متزايدة لسياسات الحكومة، بعد أن ثبت تباطؤها وأخطاؤها في التعامل مع الأزمة. ويبدو الوضع في أميركا أسوأ بكثير، حيث تبدو الولايات المتحدة منقسمة على نفسها بين الحكومة المركزية والولايات، وبين الولايات الديمقراطية والجمهورية، وبين الفقراء والأغنياء في ظل حالةٍ من الشعور المتزايد بفشل القيادة السياسية وتهرّبها من المسؤولية، وعدم التزام ترامب بتعليمات أكبر مستشاريه الصحيين. وهي عوامل عزّزت الشعور بتردّي القيادة الأميركية وفشل أميركا في تقديم نموذجٍ يحتذي به العالم في التعامل مع الفيروس.
تعاملت ألمانيا مع الأزمة منذ بدايتها بجدّية وحرفية، ساعدها على ذلك نظام سياسي وضع بنية صحية مناسبة في أوقات الرخاء وقيادة سياسية تتمتع بالكفاءة والهدوء المطلوبين في حالة الأزمات، ما انعكس على التزام الشعب بتعليمات حكومته، والتفافه حولها وشعوره بالطمأنينة، ولعل ذلك يدفع في اتجاه الاهتمام أكثر بالديمقراطية الألمانية، وما يمكن أن تقدّمه من دروسٍ للديمقراطيات الغربية والديكتاتوريات.