عن "حرب اللاحرب" أيضاً

31 يوليو 2019
+ الخط -
لا تزال الأزمة، أو قل الحرب الأميركية - الإيرانية، حاميةً ومتجهة نحو التصعيد، لكنه التصعيد المبرمج الذي يعرف من خلاله كل من الطرفين إلى أين تتجه الخطوة التالية ومتى، وإذا كان محللون قد وضعوا أمامهم صورة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب مرتدياً اللباس العسكري، وهو يطارد الرئيس الإيراني حسن روحاني، وفي ذاكرتهم مشهد الرئيس الأسبق جورج بوش، وهو يتصدّى لخصمه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، فإن آخرين غيرهم وضعوا صورة الرئيسين وكل منهما يحمل غصن زيتون، وفي أذهانهم مشهد اللقاء بين دونالد ترامب وصنوه الكوري الشمالي كيم جونغ أون، وهما يتبادلان الابتسامات الماكرة. وفي كل الأحوال، تفصح التغريدات والتغريدات المضادّة لطرفي اللعبة أن بينهما حدوداً بلون الدم، لا يستطيع أي منهما أن يتخطاها، وأن هناك عوامل خاصّة بكل طرف، تفرض عليه التمسّك بقواعد اللعبة وعدم الخروج عليها في الحال الحاضر على الأقل، وكلاهما يراهن على الزمن. إما أن يجبر الخواطر ويكرس لحالة وئام ممنهج، وإما أن يتمرّد أحدهما على قواعد اللعبة، وحينها سوف نسمع قعقعة السلاح ودويّ الصواريخ والقاذفات. وعندها لن يكون أحد في الإقليم في منأى عما يحدث!
واذا كانت بدايات الحروب عادة ما تختصرها الكلمات، فإن ما يطرق أسماعنا اليوم كلام كثير ينبئ بتصاعد لغة التهديد والوعيد بين واشنطن وطهران، ويكاد يتحوّل إلى صراخ محموم وصراخ مضادّ، وإن أخذ أحياناً لهجة تهدئة واستمالة. يقول الأميركيون: "نريد التفاوض من دون شروط مسبقة، مستعدّون للذهاب إلى طهران للتفاوض، لا نريد تغيير نظام الحكم في إيران، نريد إيران عظيمة". يرد الإيرانيون: "لا نثق بالأميركيين، لا مفاوضات قبل رفع العقوبات، نحن على استعداد للتفاوض. ولكن ليس على الصواريخ الباليستية، نريد التفاوض مع أوروبا، ولكن ليس مع أميركا ـ ترامب"! يريد الطرفان من السجال الدائر بينهما إنضاج ظروفٍ صالحة للتفاوض، وفي جعبة كل منهما شروطه التي لن يتنازل عنها بسهولة.
الإيرانيون، على ما يبدو، يخشون الحرب ومفاعيلها، خصوصاً بعد ما حققوا في سنوات الرمادة العربية من مكاسب، وجنوا أرباحاً لم تخطر ببالهم من قبل، توغّلوا في العمق العربي. أخذوا العراق واغتصبوه، تحصّنوا في سورية. زرعوا وكلاء عنهم في لبنان، مدّوا أرجلهم عبر البحر إلى اليمن. أنشأوا معامل للسلاح. حصلوا على صواريخ وقاذفات وطائرات متطوّرة. شرعوا في تطوير منشآتهم النووية. وضعوا خططاً ذكية لنشر برنامجهم الأيديولوجي العرقي والمذهبي. تعلموا من خبراتهم في السنوات الأخيرة كيف يواجهون العالم، وكيف يصنعون من إيران دولة إقليمية عظمى بأفق إمبراطوري توسعي وجامح، فهل يمكنهم أن يتنازلوا عن هذا كله، وأن يُسقطوه من الحساب؟
الظاهر أنهم يراهنون على أن الرئيس ترامب لن يُقدم على خطوة دراماتيكية، بسبب حساباته 
الانتخابية التي تفرض عليه التريث في اتخاذ قرار الحرب. وهم أيضاً صبورون بما يكفي، حتى تقترب لعبة "حرب اللاحرب" من نهاياتها. عند ذاك يضعون أقدامهم على خطوة التراجع، يكونون قد روّجوا تسويةً ما تحفظ لهم ماء الوجه أمام مواطنيهم، وأمام أتباعهم في العالم. وهناك أطراف ثالثة، روسيا والصين وأوروبا، وسلطنة عُمان أيضاً مستعدة للمساعدة على إنجاز أمر كهذا. أما إذا آل القرار للجناح المتشدّد، فسوف يكون الإيرانيون قد وقعوا في الفخ الذي نصبه لهم الأميركيون، كما وقع صدام حسين من قبل، وقد أسقطته مكابرته وعجزه عن قراءة ما يحيط به وببلده، وكان أن دفع الثمن غالياً.
الأميركيون من ناحيتهم، جمهوريين كانوا أو ديمقراطيين، تظل عيونهم على إيران، سواء حافظت على تشددها أو أظهرت نوعاً من المرونة والاعتدال والتماهي مع الظروف الضاغطة، فهي في نظرهم بحيرة نفط شاسعة، لا يمكن الاستغناء عنها. وهي أيضاً رقم صعب في المنطقة في حسابات الاستراتيجيا الأميركية والأمن الإسرائيلي. وهكذا في نهاية المطاف، أمام إيران خياران: أن تسعى إلى احتواء الأزمة بأقل قدر من الخسائر، أو أن تتحمل مفاعيل ضرباتٍ عسكرية تطيح منشآتها النووية، وتضعف اقتصادها أو حتى حرب أكثر شمولاً تعيد البلاد إلى عصر سابق!
وإذا كان "الخصام الطويل والممتد يعني أن كلا الطرفين على خطأ"، على حد مقولة الفيلسوف الفرنسي فولتير، فإن الطرفين سوف يقتربان في النهاية من اللحظة التي يكتشفان فيها أن كليهما على خطأ، وعندئذ سيكون لكل حادث حديث.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"