01 مايو 2019
عندما يُدار الإعلام في الجزئر بالحيلة
نصر الدين لعياضي
في قراءته كتاب كليلة ودمنة، كتب الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو، إن "الحيلة تعمل حين تعوز القوّة، فلا حاجة للأسد للحيلة فقوّته ترفعه عنها"، وهذا خلافا للثعلب الذي يلجأ إلى الحيلة، لأنه يفتقد قوّة الأسد. وتنطبق هذه القراءة على السلطات الجزائرية في تعاملها مع قطاع الإعلام. ولكن هل خانتها القوة حتّى لجأت إلى الحيلة؟ بَلَى، لقد افتقدت قوّة الحُجّة، وليس حُجّة القوّة.
عندما أقبلت السلطات على فتح المجال لإنشاء صحف خاصة، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، كانت تطمح، من جملة ما تطمح، إلى منح "واجهة ديمقراطية" للنظام السياسي، فساعدت المهنيين على إنشاء صحفهم الخاصة. ثم التحق بهم رجال المال عديمي الصلة بالمهنة، واستخدمت أسلوب "الجزرة والعصا" لترويض الصحف الخاصة الناشئة، فمَوَّلت كثيرا منها بريع الإعلان الذي ما زالت تحتكر سوقه. ومسحت ديون صحف عديدة لدى مطابع الدولة، وغضت البصر عن تراكم ديون بعضها الآخر. وعندما ترى ضعف ولاء هذه الصحيفة لها أو تلك، تلجأ إلى العصا، فتهددّها بالغلق إن لم تدفع ديونها للمطابع، وتخيفها بإدارة الضرائب، وبالملاحقة القضائية، والإيعاز بتقليص سحب نسخها. وجديد الأمثلة على ذلك صحيفتا الفجر والجزائر نيوز. لقد فهم مالكاهما أنه لا علاقة لحرمانهما من الطبع بعدم تسديد
ثمن طباعتهما. واعتبراه عقاباً سياسيّاً عليهما لموقفهما المعارض لترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسيّة رابعة.
توقفت ستون صحيفة عن الصدور في الجزائر منذ 2014، بسبب تراجع سوق الإعلان، كما تزعم السلطة. ولكن هذا التراجع لم يمنعها من رفع حصة بعض الصحف، حتى التي لا يقرأها أحد من عائدات الإعلان، بينما حرمت منه صحفا أخرى أكثر مقروئية!
وكلّلت سياسة العصا والجزرة بتكوين فئة من "الصحافيين" و"أشباه الصحافيين" اغتنوا من الصحافة، فامتلكوا عقارات وشركات تجارية من دون أن يسدّدوا ديونهم لدى مطابع الدولة. وهكذا تقاطعت مصالح "أثرياء الصحافة" ومصالح سياسيين ورجال أعمال كثيرين، فحوّلوا صحفهم إلى ساحة للصراع بين عُصَب السلطة وأداته. هذا ما يقوله الهجوم الشرس الذي شنّته بعض الصحف على مستشار الرئيس ليامين زروال في صيف 1998 لإجباره على الاستقالة من رئاسة الجمهوريّة. والهجوم الذي تعرّض له وزير الداخلية السابق نور الدين زرهوني، للضغط على الرئيس بوتفليقة. وهذا كله لا ينفي الاعتراف بوجود صحافيين أكفاء آمنوا بالصحافة الحرة، ومنهم من دفع حياته ثمنا لها. ولا يبخس قيمة كتابات صحافيّة جريئة وناقدة في الصحف الجزائريّة. ولكن نقد الصحف وتعليقاتها لا يزعج السلطات كثيرا، في حالة خُلوّها من الأخبار المُوَثَّقة التي تدين النظام السياسي.
يذكر أمبرتو إيكو أن الوظيفة الحقيقية للصحافة الإيطالية، في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، ليست إخبار الناس، بل بعث رسائل مسننة إلى لوبيات السلطة، ولم يكن قراؤها سوى وسيلة. والمصيبة أن الرسائل التي كانت تبعثها الصحف الجزائرية، وربما ما زالت، ليست مسننة، بل صريحة ومجاهرة بنواياها.
ولم تكن الحيلة في إدارة قطاع السمعي البصري في الجزائر أقل في إدارة الصحف، فأمام الخوف من امتداد حراك الربيع العربي إلى الجزائر، ورغبة بوتفليقة في الترشح لعهدة رئاسية رابعة، فتحت السلطات الجزائريّة المجال للاستثمار الخاص في قطاع التلفزيون في 2012. واشترطت أن يكون بَثّه من خارج التراب الجزائري، فازداد عدد هذه القنوات، ذات الوضع القانوني الهجين، عن 40 قناة تلفزيونية في ظرف قصير جدا. ولكن لم يُرَخّص سوى لخمس قنوات تلفزيونية بصفتها مكاتب لقنوات تلفزيونيّة أجنبيّة لمدة سنة قابلة للتجديد. والمحظوظون
الذين استفادوا من الترخّيص هم رجال الأعمال المقرّبون من دائرة الرئاسة، والذين جعلتهم رجال مال بين عشية وضحاها. ولا ينمّ اختيارهم عن عبقرية جزائرية، بقدر ما يفصح عن تقليد ممسوخ لما قام به نظام بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر.
ينص القانون الجزائري الخاص بالسمعي - البصري، الصادر في 2014، على أن حرية إنشاء قنوات تلفزيونية تقتصر على القنوات المتخصصة، وعلى ضرورة أن يكون مالكوها من الصحافيين المحترفين والأشخاص المهنيين، ولا يجوز لأي شخص المساهمة في إنشاء أكثر من قناة تلفزيونية. ولكن النظام السياسي لم يُفَعِّل هذا القانون، وتركه للاستعمال كسيف ديموقليس على رقاب القنوات التلفزيونية. لقد شُمّع مقرا القناتين، الأطلس والوطن، بقرار إداري لأنهما لا تملكان ترخيصا لممارسة نشاطهما.
وكانت نِيّة السلطات الجزائرية، عفوا حيلتها، تحويل المشاهدين الجزائريين عن متابعة القنوات التلفزيونيّة الأجنبيّة، الجزيرة والعربيّة وفرانس 24 وتي أف 1 الفرنسية، وغيرها من خلال الترخيص لقنوات تلفزيونيّة خاصة بالنشاط. وتلهيتهم بلغو الصور والكلام عن استحضار الجن والشعوذة والزنا، عملا بمقولة "إنّ السياسة فنُّ منع البشر من الاهتمام بما يَعْنيهم"، وتوجيهها إلى تصفية الحساب بين عصب السلطة. وهكذا تحولت بعض القنوات التلفزيونية إلى لسانٍ ناطق باسم "القوى غير الدستورية" التي استأثرت بالحكم، ففضلتها عن وكالة الأنباء الجزائرية والتلفزيون الحكومي في مجال الأخبار، والأدهى جعلتها سوطا لجلد كل معارض لها، والتنديد بالذين اختلفوا مع سياسة بوتفليقة، وحتّى مع مزاجه. فلم ينج من تشهيرها وقذفها والنهش في أعراض رؤساء أحزاب معارضة، ومستثمرين، ومثقفين وفنانين، وشخصيات تاريخيّة، وحتّى وزراء وهم في وزاراتهم أمام صمت مؤسسات الدولة، وربما تواطؤها. هذا لا ينفي بث بعض القنوات التلفزيونية برامج متميزة، ولكن طائر السنونو الوحيد لا يصنع الربيع، كما يُقول المثل الفرنسي.
هل يدرك النظام السياسي معنى المثل العربي "على أهلها جنت براقش"، بعدما أوصل وسائل
الإعلام الجزائرية إلى هذا الانفلات المهني والأخلاقي الذي تعيشه الجزائر اليوم إلى درجةٍ لم يعد المرء يصدّق أي خبر، ويشكك في نيات ناشره؟ انفلات لم يترك لرئيس هيئة ضبط السمعي البصري ما يقوله سوى التأسف على ما آلت إليه الممارسة الإعلامية، والتأكيد على "إن سلطة المال تُضبّب الرؤية للحقل الإعلامي، وأن هناك إرادة لإنشاء مؤسسات، ثم تكبيلها". وهذا قول غريب حقا، ألم يقرأ صاحبه النص القانوني لإنشاء الهيئة التي يترأسها؟ ألم يدرك أنها ليست سوى امتدادا لديوان وزارة الاتصال؟
قد يتّهمني بعضهم بالسذاجة، لأنني أتوهم وجود إعلام في العالم، من دون صراع المصالح، ولا حيل، فالقانون هو إجماع على تشريع الحيل، بينما يثير قانون هيئة ضبط السمعي البصري الشفقة، لأنه يُداس على يد الذي من المفروض أن يسهر على تطبيقه. والخشية أن ينطبق ما جاء في الفيلم المصري "الكيف" على وضع الإعلام التلفزيوني في الجزائر. يقول الممثل في هذا الفيلم إنه كان يبيع الشّاي مغشوشا بنشارة الخشب في أكواب جميلة مدموغة بجملة "شاي أبو الأصول"، فكسب مالا وفيرا. ثم استغنى عن النشارة عندما ارتفع سعرها، فانصرف عنه الزبائن قائلين إنه يبيع شايا مغشوشًا. إنهم مُغفّلون. فيرد عليه ممثل آخر: لا، الزبائن ليسوا مُغفّلين، بل أمثالكم أفسدوا ذوقهم... هل يدير الجمهور الجزائري ظهره للإعلام عندما تتوفر الإرادة السياسية لدى نظام الحكم المقبل، ويُخْضِع النشاط الإعلامي إلى معايير مهنيّة وأخلاقيّة، لأنه تعوّد على إعلام مغشوش، فأفسد ذوقه؟
توقفت ستون صحيفة عن الصدور في الجزائر منذ 2014، بسبب تراجع سوق الإعلان، كما تزعم السلطة. ولكن هذا التراجع لم يمنعها من رفع حصة بعض الصحف، حتى التي لا يقرأها أحد من عائدات الإعلان، بينما حرمت منه صحفا أخرى أكثر مقروئية!
وكلّلت سياسة العصا والجزرة بتكوين فئة من "الصحافيين" و"أشباه الصحافيين" اغتنوا من الصحافة، فامتلكوا عقارات وشركات تجارية من دون أن يسدّدوا ديونهم لدى مطابع الدولة. وهكذا تقاطعت مصالح "أثرياء الصحافة" ومصالح سياسيين ورجال أعمال كثيرين، فحوّلوا صحفهم إلى ساحة للصراع بين عُصَب السلطة وأداته. هذا ما يقوله الهجوم الشرس الذي شنّته بعض الصحف على مستشار الرئيس ليامين زروال في صيف 1998 لإجباره على الاستقالة من رئاسة الجمهوريّة. والهجوم الذي تعرّض له وزير الداخلية السابق نور الدين زرهوني، للضغط على الرئيس بوتفليقة. وهذا كله لا ينفي الاعتراف بوجود صحافيين أكفاء آمنوا بالصحافة الحرة، ومنهم من دفع حياته ثمنا لها. ولا يبخس قيمة كتابات صحافيّة جريئة وناقدة في الصحف الجزائريّة. ولكن نقد الصحف وتعليقاتها لا يزعج السلطات كثيرا، في حالة خُلوّها من الأخبار المُوَثَّقة التي تدين النظام السياسي.
يذكر أمبرتو إيكو أن الوظيفة الحقيقية للصحافة الإيطالية، في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، ليست إخبار الناس، بل بعث رسائل مسننة إلى لوبيات السلطة، ولم يكن قراؤها سوى وسيلة. والمصيبة أن الرسائل التي كانت تبعثها الصحف الجزائرية، وربما ما زالت، ليست مسننة، بل صريحة ومجاهرة بنواياها.
ولم تكن الحيلة في إدارة قطاع السمعي البصري في الجزائر أقل في إدارة الصحف، فأمام الخوف من امتداد حراك الربيع العربي إلى الجزائر، ورغبة بوتفليقة في الترشح لعهدة رئاسية رابعة، فتحت السلطات الجزائريّة المجال للاستثمار الخاص في قطاع التلفزيون في 2012. واشترطت أن يكون بَثّه من خارج التراب الجزائري، فازداد عدد هذه القنوات، ذات الوضع القانوني الهجين، عن 40 قناة تلفزيونية في ظرف قصير جدا. ولكن لم يُرَخّص سوى لخمس قنوات تلفزيونية بصفتها مكاتب لقنوات تلفزيونيّة أجنبيّة لمدة سنة قابلة للتجديد. والمحظوظون
ينص القانون الجزائري الخاص بالسمعي - البصري، الصادر في 2014، على أن حرية إنشاء قنوات تلفزيونية تقتصر على القنوات المتخصصة، وعلى ضرورة أن يكون مالكوها من الصحافيين المحترفين والأشخاص المهنيين، ولا يجوز لأي شخص المساهمة في إنشاء أكثر من قناة تلفزيونية. ولكن النظام السياسي لم يُفَعِّل هذا القانون، وتركه للاستعمال كسيف ديموقليس على رقاب القنوات التلفزيونية. لقد شُمّع مقرا القناتين، الأطلس والوطن، بقرار إداري لأنهما لا تملكان ترخيصا لممارسة نشاطهما.
وكانت نِيّة السلطات الجزائرية، عفوا حيلتها، تحويل المشاهدين الجزائريين عن متابعة القنوات التلفزيونيّة الأجنبيّة، الجزيرة والعربيّة وفرانس 24 وتي أف 1 الفرنسية، وغيرها من خلال الترخيص لقنوات تلفزيونيّة خاصة بالنشاط. وتلهيتهم بلغو الصور والكلام عن استحضار الجن والشعوذة والزنا، عملا بمقولة "إنّ السياسة فنُّ منع البشر من الاهتمام بما يَعْنيهم"، وتوجيهها إلى تصفية الحساب بين عصب السلطة. وهكذا تحولت بعض القنوات التلفزيونية إلى لسانٍ ناطق باسم "القوى غير الدستورية" التي استأثرت بالحكم، ففضلتها عن وكالة الأنباء الجزائرية والتلفزيون الحكومي في مجال الأخبار، والأدهى جعلتها سوطا لجلد كل معارض لها، والتنديد بالذين اختلفوا مع سياسة بوتفليقة، وحتّى مع مزاجه. فلم ينج من تشهيرها وقذفها والنهش في أعراض رؤساء أحزاب معارضة، ومستثمرين، ومثقفين وفنانين، وشخصيات تاريخيّة، وحتّى وزراء وهم في وزاراتهم أمام صمت مؤسسات الدولة، وربما تواطؤها. هذا لا ينفي بث بعض القنوات التلفزيونية برامج متميزة، ولكن طائر السنونو الوحيد لا يصنع الربيع، كما يُقول المثل الفرنسي.
هل يدرك النظام السياسي معنى المثل العربي "على أهلها جنت براقش"، بعدما أوصل وسائل
قد يتّهمني بعضهم بالسذاجة، لأنني أتوهم وجود إعلام في العالم، من دون صراع المصالح، ولا حيل، فالقانون هو إجماع على تشريع الحيل، بينما يثير قانون هيئة ضبط السمعي البصري الشفقة، لأنه يُداس على يد الذي من المفروض أن يسهر على تطبيقه. والخشية أن ينطبق ما جاء في الفيلم المصري "الكيف" على وضع الإعلام التلفزيوني في الجزائر. يقول الممثل في هذا الفيلم إنه كان يبيع الشّاي مغشوشا بنشارة الخشب في أكواب جميلة مدموغة بجملة "شاي أبو الأصول"، فكسب مالا وفيرا. ثم استغنى عن النشارة عندما ارتفع سعرها، فانصرف عنه الزبائن قائلين إنه يبيع شايا مغشوشًا. إنهم مُغفّلون. فيرد عليه ممثل آخر: لا، الزبائن ليسوا مُغفّلين، بل أمثالكم أفسدوا ذوقهم... هل يدير الجمهور الجزائري ظهره للإعلام عندما تتوفر الإرادة السياسية لدى نظام الحكم المقبل، ويُخْضِع النشاط الإعلامي إلى معايير مهنيّة وأخلاقيّة، لأنه تعوّد على إعلام مغشوش، فأفسد ذوقه؟
دلالات
مقالات أخرى
16 ابريل 2019
08 ابريل 2019