عندما يعيد مجلس أوروبا "الدب الروسي"

30 يونيو 2019
+ الخط -
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945، سعى قادة الدول الأوروبية الخارجة من أتونها (الحرب) إلى بناء مؤسسة تقيها من شر العودة إليها، وتؤسس لتناغم أوروبي وانسجام حقوقي، وتؤطر لاحترام الحريات وحقوق الإنسان في عالم ما كان يُظنّ أنه عالم ما بعد النازية والفاشية. وفي مايو/ أيار 1945، أقرّت معاهدة لندن تأسيس مجلس أوروبا الذي يبلغ عدد أعضائه اليوم 47 عضوا، بعد توسعة مهمة جرت في الثمانينيات والتسعينيات، إثر انهيار المعسكر "الاشتراكي". وتوافق المؤسّسون على معايير تشريعية محدّدة في مجال الحفاظ على حقوق الانسان وتعزيز النظام الديمقراطي وغلبة دولة القانون في القارة الأوروبية.
وينشط المجلس في كل مناحي العلاقات الأوروبية، عدا الخوض في المسألة الدفاعية. وقد نجم عن هذه التجربة الفريدة من العمل المشترك إبرام اتفاقيات ومعاهدات عديدة، في ظلّها وبفضل التجمع الفعّال وغير المسبوق لممثلين عن الدول الأعضاء. كما يمكن اعتبار أن مجلس أوروبا يُشكّل اللبنة الأولى في بناء العمل الأوروبي المشترك الذي أفضى لاحقا إلى تأسيس اتحاد الصلب والفولاذ، ثم السوق الأوروبية المشتركة، وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي. وسعى المجلس، منذ تأسيسه، إلى تنشيط العمل المشترك، خصوصاً في المجالين، الاقتصادي والاجتماعي.
كانت فاتحة إنجازات المجلس مؤشّرا فعليا على تمسّك الأعضاء بمسألة حقوق الإنسان، وتمت ترجمتها بعقد اتفاقية أوروبية لذلك، تم التوقيع عليها سنة 1950، ودخلت حيّز التنفيذ سنة 1953. واستندت إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الجمعية العمومية للأمم المتحدة سنة 1948. وتحسباً من أن تبقى الاتفاقية حبراً على ورق، واستناداً إلى تجربة أوروبية لم تُنس، جرت فيها الويلات والمذابح والانتهاكات، تم إلحاق الاتفاقية بآلية قضائية عليا، من خلال إنشاء المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان سنة 1959. محكمةٌ يحق لكل مواطني الدول الأعضاء والمقيمين فيها أن يلجأوا إليها في حال تظلمهم من أي نوع من الانتهاكات، إن اعتبروا أن الدولة التي ينتمون إليها، أو أية جهة أخرى، أساءت إليهم، وإن لم يحترم النظام القضائي فيها حقوقهم، بالاستناد إلى الاتفاقية وملحقاتها. كما يحق للدول والمؤسسات المدنية والمجموعات المختلفة أن تتقدّم إلى المحكمة بالشكوى.
دعتني، في مارس/ آذار الماضي، لجنة العلاقات الخارجية في المجموعة البرلمانية التابعة 
لمجلس أوروبا إلى جلسة استماع، وكان محور النقاش تقريرا عن الأوضاع في سورية، تقدمت به نائبة عن الحزب اليميني اليوناني، والعضو الفاعل في كتلة الأحزاب اليمينية في البرلمان الأوروبي. وكان النقاش يستبعد أية مشروطية في الانفتاح على المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة التي جرت طوال السنوات الماضية، بحجة أن المتهم قد انتصر، وبالتالي، من الواقعية السياسية أن يجري الحديث معه. وقد تبيّن في مواقف الحضور من النواب ميلٌ من اليسار البافلوفي، كما من اليمين المتطرّف، إلى التراخي والمشاركة في عملية إعادة الإعمار في سورية، سعياً إلى تحقيق مصالح اقتصادية أو ترسيخ مواقف أيديولوجية. وبعد نقاش طال، اختتمت مداخلتي بالإشارة إلى أن الانهزامية السائدة في المجلس ستمتد، ولن يكون مفاجئاً أن يتم إعفاء روسيا من عقوبة تعليق العضوية التي طبقت بحقها سنة 2014 بسبب ضمّها جزيرة القرم.
صوّت المجلس البرلماني التابع لمجلس أوروبا، قبل أسبوع، على رفع هذه العقوبة، وعودة روسيا إلى حظيرة المجلس، بمبرر أن هذه العودة تتيح للمواطنين الروس اللجوء إلى المحكمة الأوروبية التي استقبلت، خلال عقدين من العضوية الكاملة لروسيا، أكثر من 160 ألف شكوى بحق النظام الروسي، إضافة إلى عودة المساهمة المالية الروسية. واعتبرت المعارضة الروسية أنه جرى تقديم المجلس وردة للرئيس بوتين، ستشجعه على ارتكاب مزيد من الانتهاكات، وهي وقود لاعتداءات روسية جديدة. واعتبر المتحدث باسم الكرملين ما جرى "انتصارا للعقل". وعلى الرغم من هذا التنازل أمام موسكو، صرح الروس بأنه يجب حذف القرارات التي اعتمدت في سنوات غيابهم، وبأنه سينضم قريبا إلى وفدهم البرلماني، ممثلون يختارونهم عن القرم.
ما يحصل، ولو بقليل من المبالغة ربما، يُذكّر بأن تراخي الدول الأوروبية مع ألمانيا النازية سنة 1938 أوصلها إلى الحرب الشاملة والدمار الكامل. قليلاً من الحزم مع روسيا، حيث انتهاكاتها الفظيعة، في أراضيها وأراضي سواها، تكاد لا تعد ولا تحصى، يتماشى أكثر مع المبادئ المؤسسة لمجلس أوروبا. والحجج التي تسوق لقبول هذه اللزوجة السياسية لا يمكن أن تقنع ساذجاً. وربما يجب التأمل في ما كتبه المؤرخ الفرنسي، أندريه ارجاكوفسكي، في صحيفة لوموند، أنه "مع السماح لروسيا بالعودة إلى صفوفه، يقوم مجلس أوروبا بعملية انتحار جماعي"، لمعرفة مدى حجم الأضرار المرتقبة من عودة "الدب الروسي" إلى كرم العالم "الحر".