14 نوفمبر 2024
عندما يحتفي نتنياهو بثورة يوليو
ليس العنوان أعلاه للخداع، أو حتى جذب الانتباه بتورية لا صلة لها بالواقع، وليس نشراً للأكاذيب والإشاعات، تلك التهمة التي أصبحت أداة لتكميم الأفواه وإغلاق ما تبقى من مساحات النقاش في المجال العام. فعلياً احتفلت سفارة مصر في إسرائيل بثورة 23 يوليو، بحضور رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، كما أعلنت وزارة خارجية إسرائيل عن مشاركتها في العيد الوطني لمصر (ثورة يوليو). ربما كان المسمّى الأقرب للصحة احتفاء سفارة مصر بنتنياهو الذي خصصت له الكلمة الرئيسية بالحفل المفتتح بنشيد إسرائيل. بثت الكلمة وسائل إعلام إسرائيلية عديدة، بجانب الاحتفاء بها على منصّاتها الإلكترونية، بينما لم تذكر وزارة خارجية مصر، أو أي من وسائل الإعلام المصرية، كلمة واحدة عن الحفل. وهذا مبرّر ومفهوم، بحكم أننا لا نعرف أخبارنا إلا من الغير، وبحكم أن هذه الأخبار غير مرحّب بها إلا من قلة من أنصار التطبيع، بينما احتفت إسرائيل وتعاملت مع الواقعة بفخر. استفزت الواقعة المتابعين، مصريين وعرب، وأصبحت مثار جدل واستنكار. نشرت صحف مصرية عدة أخبار عن احتفالات بثورة يوليو في سفارات مصر وقنصلياتها في الخارج، وخصوصا أميركا والصين وأستراليا وكندا. كانت الأخبار المتواترة تشبه نوعا من الإحالة، وكأن احتفال سفارة مصر بإسرائيل بثورة يوليو 1952 أمر عادي في إطار أنشطة دبلوماسية خارجية. مشهد
سوداوي وحزين الذي تحتفل فيه مصر بثورة يوليو، بمشاركة قادة إسرائيل، الدولة المحتلة التي جرّت مصر إلى الحرب ثلاث مرات، بل إنها زرعت لتمنع تطور مصر وإمكانات نهضتها، وهو دور وظيفي لها لم يتغير، حتى مع تبدل الظروف والعصور، ومع ما تمر به مصر من أزمات متعدّدة الأوجه.
في مصر مبكياتٌ كثيرات، تساق للضحك على الذقون، مع الاعتذار للمتنبي الذي يحضر في مثل هذه المواقف المربكة. كيف لنا أن نصدّق واقعة احتفال رجال إسرائيل بذكرى دولة يوليو ورجالها؟ هل تغير موقف إسرائيل التي مدّت وما زالت تمد خيوط العداء لمصر؟ هل توقفت أطماعها في السيطرة والهيمنة على المنطقة العربية ككل؟ كيف نتابع من دون حزن أن يكون المشهد اعتياديا، كما يُراد أن يصوّر لنا، وأن يمر الحفل بهذا الشكل، حتى من دون مواءمة سياسية أو لياقة دبلوماسية وكياسة، حتى في التصرف، تراعي المنطق؟ وكيف نضع هذا المشهد ونقبله بجانب مشاهد أخرى تتحدث عن خيانة المعارضين، وأنهم جزء من مؤامرة تحاك ضد مصر، عملاء لأجهزة دول معادية؟ أي دول التي يتحدثون عنها، وهم يحتفون مع أكثر الدول إجراما وانحطاطا وعداء لمصر تاريخيا؟
تُسقط واقعة الاحتفال في سفارة مصر في تل أبيب، بمشاركة نتنياهو، وغيرها من وقائع عدة سابقة، أوهام بعضهم حول توجهات النظام في ما يخص الموقف من إسرائيل، أو قضايا الاستقلال الوطني ومواجهة قوى الهيمنة، وتثبت أن توقعاتهم لم تبن على أسسٍ حقيقية، ولا حتى أمنيات تنتظر، بل كانت جزءا من خداع النفس قبل خداع الآخرين، هؤلاء الناصريين وغيرهم من الذين ادّعوا أن النظام يفكّك اتفاقية كامب ديفيد، أو أن السلطة في حال مواجهةٍ مع قوى الهيمنة. أولئك المدّعون، وللأسف، ورثة السمات الأكثر سلبية لنظام يوليو 1952، بؤس الدعاية للنظم الحاكمة، في محاولة لإشاعة بطولاتٍ زائفةٍ تمد عمر المستبدّين، وتمنح مادحيهم فرصا للتحقق والوجود السياسي، وتبرّر تأييدهم السلطوية في مقايضةٍ بين الوطنية المتخيلة والحرية، وكأن القيمتين محل تعارض.
لم يكن نتنياهو يحتفي بثورة يوليو. يعرف الجميع ذلك، وإنما كان يحتفي، كما قال، "بمرور 40 عامًا على إحلال السلام ما بين إسرائيل ومصر. وخلال العام الـ40 منذ إحلال السلام بيننا، نأمل بإنجاز أشياء عديدة أخرى بيننا وفي منطقتنا". يصالح الحفل هنا رجال يوليو 1952 العسكريين الذين رفعوا شعارات الاستقلال الوطني ومناهضة الصهيونية وقوى الاستعمار مع رجال وساسة زمن تسعى فيه الأطراف العربية والنظام المصري لعقد الصفقات، حتى من دون ما تقتضيه عمليا من تنازلاتٍ من طرفين، ولكن هناك من يرون أنه ليس ثمّة
طرفان، وإنما هو طرف واحد.
قد يقارن بعضهم بين مصر وأغلب الدول العربية التي تهرول ناحية إسرائيل في بناء علاقات متنوعة، تكمل مشهد التطبيع، إلا أن وضع مصر الجيوسياسي وتاريخ معاركها مع إسرائيل، وبحسابات متنوعة، يفرضان عليها حساباتٍ مختلفة، ليست بالضرورة مواجهة إسرائيل. ولكن على الأقل الحذر في الوصول إلى مثل هذا المشهد الذي يتحدّث فيه نتنياهو عن المنطقة العربية بوصفها "منطقتنا". ذلك أن إسرائيل التي كانت تشتكي للعالم، بداية الخمسينيات، من أنها محاصرةٌ من العرب، باتت اليوم مندمجةً في الوطن العربي، تربطها علاقات متنوعة المستوى مع دولها، وتساهم في تجمعاتها السياسية والثقافية والرياضية والنسوية، بل تكاد بسياساتها الخارجية أن تحاصر الدول العربية، وتدفع باتجاه تفتيتها عبر تعميق الخلافات العربية العربية، ودعم سياسة الأحلاف التي تستبدل أدوار إسرائيل وموقعها عدوا بدول أخرى في المنطقة، على أسس سياسية أحيانا، أو تقسيمات دينية في أحيان أخرى.
بغض النظر عن أي تقييمات سلبية للرئيس جمال عبد الناصر وثورة يوليو في ذكراها السابعة والستين، إلا أنها النموذج الأكثر صدقا ووضوحا في معاداة إسرائيل والتصدّي لها، والنزوع إلى التحرّر الوطني. ولا يمكن أن نعتبر أن تشابه المكون العسكري الحالي للنظام المصري يعني تشابه مواقفه مع نظام يوليو 1952، بل على العكس، وهو ما تثبته كل يوم إجراءات وسياسات اقتصادية وانحيازات اجتماعية أو تمظهر السياسة الخارجية، وقائع عدة، ليس آخرها الاحتفال المشين.
تُسقط واقعة الاحتفال في سفارة مصر في تل أبيب، بمشاركة نتنياهو، وغيرها من وقائع عدة سابقة، أوهام بعضهم حول توجهات النظام في ما يخص الموقف من إسرائيل، أو قضايا الاستقلال الوطني ومواجهة قوى الهيمنة، وتثبت أن توقعاتهم لم تبن على أسسٍ حقيقية، ولا حتى أمنيات تنتظر، بل كانت جزءا من خداع النفس قبل خداع الآخرين، هؤلاء الناصريين وغيرهم من الذين ادّعوا أن النظام يفكّك اتفاقية كامب ديفيد، أو أن السلطة في حال مواجهةٍ مع قوى الهيمنة. أولئك المدّعون، وللأسف، ورثة السمات الأكثر سلبية لنظام يوليو 1952، بؤس الدعاية للنظم الحاكمة، في محاولة لإشاعة بطولاتٍ زائفةٍ تمد عمر المستبدّين، وتمنح مادحيهم فرصا للتحقق والوجود السياسي، وتبرّر تأييدهم السلطوية في مقايضةٍ بين الوطنية المتخيلة والحرية، وكأن القيمتين محل تعارض.
لم يكن نتنياهو يحتفي بثورة يوليو. يعرف الجميع ذلك، وإنما كان يحتفي، كما قال، "بمرور 40 عامًا على إحلال السلام ما بين إسرائيل ومصر. وخلال العام الـ40 منذ إحلال السلام بيننا، نأمل بإنجاز أشياء عديدة أخرى بيننا وفي منطقتنا". يصالح الحفل هنا رجال يوليو 1952 العسكريين الذين رفعوا شعارات الاستقلال الوطني ومناهضة الصهيونية وقوى الاستعمار مع رجال وساسة زمن تسعى فيه الأطراف العربية والنظام المصري لعقد الصفقات، حتى من دون ما تقتضيه عمليا من تنازلاتٍ من طرفين، ولكن هناك من يرون أنه ليس ثمّة
قد يقارن بعضهم بين مصر وأغلب الدول العربية التي تهرول ناحية إسرائيل في بناء علاقات متنوعة، تكمل مشهد التطبيع، إلا أن وضع مصر الجيوسياسي وتاريخ معاركها مع إسرائيل، وبحسابات متنوعة، يفرضان عليها حساباتٍ مختلفة، ليست بالضرورة مواجهة إسرائيل. ولكن على الأقل الحذر في الوصول إلى مثل هذا المشهد الذي يتحدّث فيه نتنياهو عن المنطقة العربية بوصفها "منطقتنا". ذلك أن إسرائيل التي كانت تشتكي للعالم، بداية الخمسينيات، من أنها محاصرةٌ من العرب، باتت اليوم مندمجةً في الوطن العربي، تربطها علاقات متنوعة المستوى مع دولها، وتساهم في تجمعاتها السياسية والثقافية والرياضية والنسوية، بل تكاد بسياساتها الخارجية أن تحاصر الدول العربية، وتدفع باتجاه تفتيتها عبر تعميق الخلافات العربية العربية، ودعم سياسة الأحلاف التي تستبدل أدوار إسرائيل وموقعها عدوا بدول أخرى في المنطقة، على أسس سياسية أحيانا، أو تقسيمات دينية في أحيان أخرى.
بغض النظر عن أي تقييمات سلبية للرئيس جمال عبد الناصر وثورة يوليو في ذكراها السابعة والستين، إلا أنها النموذج الأكثر صدقا ووضوحا في معاداة إسرائيل والتصدّي لها، والنزوع إلى التحرّر الوطني. ولا يمكن أن نعتبر أن تشابه المكون العسكري الحالي للنظام المصري يعني تشابه مواقفه مع نظام يوليو 1952، بل على العكس، وهو ما تثبته كل يوم إجراءات وسياسات اقتصادية وانحيازات اجتماعية أو تمظهر السياسة الخارجية، وقائع عدة، ليس آخرها الاحتفال المشين.