وقد تفاجأ أحياناً بصفّ يشكل فيه اسم هادي الغالبية الساحقة، لتكتشف بعدها أنّ جميعهم ولدوا في سنة استشهاد السيد هادي نصرالله، نجل الأمين العام لحزب الله.
فكثيرون هم الذين يربطون أسماء أولادهم بانتماءاتهم وولاءاتهم السياسية والدينية والاجتماعية، أو بأسماء من يحبون، ولا ننسى أنّه منذ أواسط الخمسينيّات وحتى السبعينيّات، فترة المدّ الناصري، كادت أن تنحصر الأسماء بين جمال وناصر وعبد الناصر.
إنّه اليوم الأول من العام الدراسي 1998 – 1999: بدأ الكلام والحديث عن مادة الحاسوب والمعلوماتية التي كنت أدرسها، ثم عن المنهاج والدروس والتطبيقات والتمارين. وكالعادة في الحصّة الأولى كان يحلو لي أن أتعرّف إلى تلامذة الصفّ، لا سيما الطلاب الجدد الوافدين إلى المدرسة من مدارس أخرى.
طبعاً جميع الأسماء مألوفة ومتشابهة، ويصدف أحياناً أن تجد أنّ أكثر من تلميذ يشتركون لا في الاسم الأول فقط، بل وفي اسم العائلة أيضا.
وفيما كنت أتنقّل في الصفّ من تلميذ إلى آخر، ومن اسم إلى آخر، وقع على مسمعي، وبشكل غير متوقّع، اسم تلميذ جديد. هبط على رأسي كرصاصة، فالاسم هو: نبيه بري. ونبيه برّي الأصلي في لبنان هو رئيس مجلس النواب، وأحد قطبي الطائفة الشيعية التي أنتمي إليها، وأعارضه وأعارض سياسات القطبين. وهو رئيس حركة "أمل" التي كانت من أبرز الميليشيات التي شاركت في الحرب الأهلية اللبنانية.
كان لا بدّ أن يترافق ذكر هذا الاسم، في كل مرة يلفظ هذا الفتى اسمه، مع جولة من الهرج والمرج والفوضى. إذ يضيف ذكر الاسم جوّا من البهجة والصخب والضحك، الممزوج بالحسد من زملائه. كما لو أنّه يحظى باسم أفضل من أسمائهم، يحسدونه عليه. اسم قد يضيف إليه مجداً لا يملكونه هم، ويميّزه عنهم.
ما إن لفظ نبيه بري اسمه حتى ارتعشت بكل جوارحي وتخدّر كامل جسدي ورحت أرمقه بنظرات من رأسه حتى قدميه. جلستُ على الكرسي حانياً نحو طاولة أمامي. رحت أتأمله وأبعث له نظرات، كأنّي به أحمّله مسؤولية الحرب الأهلية كلّها وألومه على تاريخ أثقل ذاكرتي ... وفجأة أطلقتُ صوتاً عالياً، قاصداً من خلاله أن أفرض على الصفّ جوّا من الجدية والرهبة، وأنا أدرك أنه لا حاجة لذلك. فالصف هادئ نسبياً، وهذا الجو المريح أنا من أوجده أصلاً... وقلت لنبيه على الفور: "ولا كلمة يا أستاذ، ما بدّي اسمع صوتك أبداً".
كان ذلك في لحظة أزعم فيها أنّه كان الساكت الوحيد بين الآخرين.
ثم قرّرت أن أبدأ الدرس الأول بما تبقى من دقائق قليلة قبل نهاية الحصة. وبنبرة محارب صرخت في الجميع: "يجب أن تبقوا في أماكنكم". مع العلم أنّ جميعهم كانوا في أماكنهم. وما إن أدرتُ ظهري لأكتب على اللوح حتّى سمعت صوت أحدهم يهمس بكلمات يستغرب فيها انفعالي المفاجئ. وبسرعة هائلة اتجهت نحو برّي، وبالنبرة العالية ذاتها رحتُ أشتمه، وبغضب شديد أسأله: "كيف تجرؤ على الكلام في صفي؟".
وقف ليقول إنّه ليس هو من تكلم، فصفعته فورا، وقلت له بغضب: "عليك أن تحترم قوانين المدرسة والصفّ، لسنا في غابة هنا". شعر المسكين بالظلم، وحاول مرّة أخرى أن يشرح لي أنّه لم يتفوّه بكلمة. لم يفلح في الدفاع عن نفسه، فأمرته أن يغادر الصف: "اطلاع برّا".
خرج نبيه بري من الصفّ والدموع تترقرق في عينيه. قصد مكتب الناظر.
كان ناظر القسم يمضي عامه الأخير في العاملية. فقد بلغ الرابعة والستين من عمر قضى معظمه يتنقّل بين صفوف وملاعب وبين قاعات وطبقات الكلية العاملية في رأس النبع.
ومن سوء حظّ نبيه بري أنّ الناظر كان قرّر قبل عام أن يترشّح في بلدته الجنوبية لشغل منصب مختار البلدة خلال الانتخابات البلدية والاختيارية لعام 1998، ولم يحالفه الحظّ.
وسبب خسارته هو ترشح قريبه المدعوم من حركة "أمل" لينافسه على المقعد نفسه، ما جعل منه شخصا آخر حانقاً على كل من حوله، فاقد الثقة بالقريب والغريب.
فبعدما كان معروفاً بهدوئه أصبح متوتراً بشكل دائم، غاضبا لا كلام عنده إلا الحديث عن مصابه والانتخابات. وقبل أن يسأل الناظر نبيه عن فعلته، سأله عن اسمه. وكان سبباً كافياً كي يستردّ الناظر ثأره من قريبه ومن أبناء بلدته، ومن حركة "أمل" التي أفقدته الحلم بأن يقضي ما تبقّى من عمره مختاراً في بلدته.
قرع جرس المدرسة، فخرجتُ من الصف لأجد الناظر واقفاً ينتظرني. سألني: "شو مشكلتك مع نبيه بري؟"، فأجبته على الفور: "أيّهما تقصد؟ الكبير أو الصغير؟". ابتسم كأنّه يقول لي: "فهمت عليك". فالناظر متورّط أيضاً. وغرقنا أنا والناظر في نوبة عميقة من الضحك، وصارت القصة نكتة نتداولها مع الأصدقاء والأقرباء، وحتّى مع منتسبين لحركة "أمل" ومؤيّدين لها.
لكن ما هي إلا أيام قليلة أصبح بعدها نبيه بري هو أكثرالطلاب قرباً مني وأحبّهم إلى قلبي. فهو كان من الأشطر والأهدأ.