"بدأت حياتي الفنية التشكيلية وأنا في الثانية من عمري في خلوة أبي. بل إنني أذكر أوّل يوم لي في هذه الخلوة... غرفة الفصل الأمامية وعليها السبورة وطلاء جدرانها الجديد أبدًا، والغرفة الخلفية التي يُحتفظ فيها بأدوات التعليم مثل الألواح وحبر العمار وأقلام البوص... أذكر كلّ ذلك وكأنه ماثل أمام عيني الآن. وكان اللوح والشرافة (أي اللوح المزخرف) هما أوّل اتصال لي بالتشكيل. وقد استرعاني وقتها - ولا يزال الآن - أن اللوح نفسه أشبه ما يكون بجسد الإنسان. وهذا لأن أضلعه المنحنية تعطيه ساقين وذراعين، وأن له رأسًا يجلس على عنق. وفي منتصف الرأس الثقب الذي يعلّق منه هذا اللوح - الجسد والذي بدا لي وكأنه عين بشرية". هذا كلام "شيخ التشكيليين السودانيين وعميدهم" إبراهيم الصلحي الذي صار من أوائل من تجاوزت شهرتهم حدود السودان إلى العالمية.
ومؤخرًا عاد الصلحي من زيارة خاطفة إلى وطنه، حيث افتتح معرضين لمجموعة من التشكيليين الشباب في الخرطوم. وشارك في مؤتمر استمر عشر ساعات بجامعة أوكسفورد. إنها طاقة لا يتوقعها المرء من شخص في عمره. لكن هذا الرجل الوقّاد العقل لم يتقاعد يومًا عن العمل ولا يزال يقضي في مرسمه بمنزله في مدينة أوكسفورد ساعات طوالًا، ويعد فيه حاليًا لمعرضين سيقامان في لندن ونيويورك صيف العام الحالي. يرى الصلحي أن "حلم "مدرسة الخرطوم" استكشاف للهوية السودانية عبر مكونين أساسييْن: الحرف العربي من جهة، ومن الجهة الأخرى الزخرف الأفريقي الذي تراه حولك في كل مكان، ويتبدى بشكل واضح في الصناعات اليدوية التقليدية مثلًا". وخلال زيارته الأخيرة للسودان شاهد "معارض ولوحات عدة اختار لها أصحابها كتلاً في الأغلب بالأبيض والأسود وخطوطًا خارجية أشبه بالأشكال الحروفية. وحتى في حال اعتبار هذه الأعمال منتمية إلى هذا أو ذاك من التيارات، فهي تصب في التحليل الأخير في مفهوم مدرسة الخرطوم. وإذا نظرت أيضًا إلى أعمال بعض أشهر الفنانين السودانيين اليوم وجدت أن أثر المدرسة عليهم جليّ لا تخطئه العين". فالمكوّن الأفريقي لدى التشكيليين السودانيين موظف للتعبير عن "ثقافة عربية إسلامية لا يمكن أن تنزع عنها العنصر الأفريقي".
ويبدو أن والد الفنّان ترك أثرًا لا يمحى، إذ هو الذي علّمه "الحرف العربي وأسراره الجمالية، بحيث صار اختياري لاتجاه الفنون - ولاحقًا المساهمة في تأسيس مدرسة الخرطوم - امتدادًا طبيعيًا للنحو الذي رباني عليه. كان رجلًا عالمًا لقبوه "مالك الصغير" لأنه كان مجودًا لعلوم القرآن والفقه وعارفًا باللغة شكلًا ومضمونًا".
سُجن إبراهيم الصلحي في عهد الرئيس الراحل جعفر النميري، الأمر الذي طبعه ببصمة لا تُمحى: "يقع وصفي لمرحلة السجن في شقين أحدهما الصدمة العميقة الأولية، وهذا شيء طبيعي. لكن الشق الثاني هو الذي يعنيني لأن السجن فتح لي الباب إلى ما أسمّيه "النمو العضوي للوحة". كانت المواد الورقية محرّمة علينا، ولذا فقد كنت آخذ ما يأتينا به الزوار من أكياس تُلف فيها الأطعمة والفاكهة، وأرسم على كلّ منها جزءًا من لوحة. وكانت كلّ هذه الأجزاء بالنسبة لي "جنيناً" له دوره المحدّد في "الكل"، أو اللوحة الجامعة لهذه الأجزاء. وكنت مضطرًا بالطبع لإخفاء هذه "الأجنة" بدفنها في التراب فلا تصادر وتُعدم. ثم حدث أن استدعوني فجأة. وفكّرت: هل أنا في طريقي إلى المشنقة؟ لكنني فوجئت بقرار الإفراج عني، ولم تتح لي الفرصة للعودة إلى السجن والتقاط كنزي المخبأ في أرضه. ظلّت تجربة "النمو العضوي للوحة"، أثرى ما خرجت به من المعتقل وربما لم أصل إليها لولاه. وربما أمكن تلخيص التجربة، رغم مرارتها، في أنها غيّرت مجرى حياتي الفنيّة وأوصلتني إلى جديد ربما لم يتأت لي بدونها".
ولعلّ هذه التجربة الفريدة والعميقة، هي التي تدفع الصلحي إلى عدّ اللوحة "كائنًا حيًا"، يقول معلّقًا على الأمر: "أخاطبها وأتوسل إليها أن تسهل مهمتي... نعم أخاطبها كما أخاطب شخصًا أمامي. فأسمعها وهي تجيبني: كفى هذا اللون هنا... الضوء كثير هنا وخافت هناك. زدني هذا وأنقصني ذاك".
درس إبراهيم الصلحي الفنون الجميلة في لندن والتصوير الفوتوغرافي في نيويورك، وأمضى فترة في مدينة بيروجا الإيطالية، حيث حرص على التعرّف إلى "أعمال النهضة عن قرب، وتحديدًا رائدها الأوّل جوتو. والواقع إن هذه الفترة هي التي رسخت قناعتي بأن المنظور، أي البعد الثالث، إنما هو إيهام لا معنى ولا داعي له. التشكيل بالنسبة لي يتمّ على مساحة مسطحة ويجب ألا يتجاوز ذلك". وخلال تجربته ومراسه الطويلين في التدريس، فإنه ينبّه طلابه إلى هذه الناحية، ويخبّرهم أن المنظور أساس في فهم التشكيل الفنّي، لكنه يضيف: "إذا كان لا بدّ منه لديك فخذ به، وإلا فأهمله لأن العمل الفني يستوي على سطح اللوحة ولا داعي لبعد ثالث له".
وقد يخيّل أن رأي إبراهيم الصلحي هذا، ناجمٌ عن موقف ديني من التصوير الواقعي، بيد أن الفنّان يوضح: "المسألة ليست موقفًا دينيًا، وإنما هي رؤيتي الخاصّة للتشكيل. والواقع أنني تقصيت لدى فقهاء في الدين مسألة ما إن كانت محاكاة الواقع محرّمة، ووجدت أن الإسلام لم يأت بشيء من هذا القبيل. وحتّى نحت التماثيل جائز، لأن المقصود في آخر الأمر، هو ما إن كان الأمر يتعلق بعبادتها. ولنذكر هنا أن الرسول محمد أباح لعائشة اللعب بدميتها. الذي أقوله هو أن البعد الثالث في العمل الفنّي لا ضرورة له، والأفضل أن يُترك هذا لمخيلة المشاهد فيكمله على النحو الذي يريد".
وفضلًا عن رأي الصلحي الخاصّ بتكوين اللوحة بعيدًا من البعد الثالث، فإن الألوان الترابية الغالبة في لوحاته قبل دخوله السجن، مستلهمة من التراث السوداني، وطبيعة المكان أيضًا: "وجدت أن أفضل السبل، هو توظيف مكونات لونية بسيطة هي الأبيض والأسود والبني وأحيانا الأحمر الطوبي، لأنها هي ألوان التراب في أم درمان، عاصمة البلاد الشعبية المعتبرة بؤرة الأعراق والثقافات السودانية،. هذه هي فترة الألوان الداكنة التي وجدت أنها أيضا أفضل السبل إلى التعبير عن السحر والغموض الذي يلف الأحاجي والأساطير السودانية مما قصّته علينا الجدات ونحن أطفال، وصار بطانة التكوين الفكري للوجدان السوداني بأجمعه. كان ضروريا بالنسبة لي أن "يشمّ" المشاهد رائحة التراب الأم درماني، ومعها كل ما تحمله من معان تراثية ووجدانية وهو ينظر إلى اللوحة".
ولا شكّ في أن ذكر التراث والماضي، يرسم صورة لسودان مضى، ذلك البلد الذي كان يبدأ بالصحراء ونخله في شماله، وينتهي بغاباته الاستوائية وأبنوسه في جنوبه، ويستضيف - جنبًا إلى جنب مع الإسلام - ديانات تبدأ من مختلف العقائد الوثنية وتنتهي بالمسيحية. وقد كانت هذه الهويّة المتعددة الأبعاد وقودًا لجدال عميق فرض نفسه على الساحة الفكرية السودانية، خاصة في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، ويبدو أن الجدال لا يزال مستمرًا حتى بعد انفصال الجنوب الأفريقي الخالي بشكل شبه كامل من الأثر العربي الإسلامي. وإذ يسأل الصلحي عن أثر الانفصال، وما بقي من مدرسة الخرطوم أو "تيّار الغابة والصحراء"، وفي ما لو صار الفنّ التشكيلي الشمالي مفتقرًا إلى رافده الأفريقي يقول: "لم ينقص قيد أنملة، لأن الأصل في الأمر الثقافة وليس الجغرافيا. انفصال الجنوب لا يعني أن الجنوبيين أخذوا من الشماليين ثقافتهم الأفريقية. وحتى من الناحية الجغرافية البحتة، فإن السودان الشمالي يضمّ قبائل النوبا وهي أفريقية صرف. إذن يظلّ حال مدرسة الخرطوم وتيار الغابة والصحراء على نفسه بغض النظر عن المستجدات المكانية".
ومؤخرًا عاد الصلحي من زيارة خاطفة إلى وطنه، حيث افتتح معرضين لمجموعة من التشكيليين الشباب في الخرطوم. وشارك في مؤتمر استمر عشر ساعات بجامعة أوكسفورد. إنها طاقة لا يتوقعها المرء من شخص في عمره. لكن هذا الرجل الوقّاد العقل لم يتقاعد يومًا عن العمل ولا يزال يقضي في مرسمه بمنزله في مدينة أوكسفورد ساعات طوالًا، ويعد فيه حاليًا لمعرضين سيقامان في لندن ونيويورك صيف العام الحالي. يرى الصلحي أن "حلم "مدرسة الخرطوم" استكشاف للهوية السودانية عبر مكونين أساسييْن: الحرف العربي من جهة، ومن الجهة الأخرى الزخرف الأفريقي الذي تراه حولك في كل مكان، ويتبدى بشكل واضح في الصناعات اليدوية التقليدية مثلًا". وخلال زيارته الأخيرة للسودان شاهد "معارض ولوحات عدة اختار لها أصحابها كتلاً في الأغلب بالأبيض والأسود وخطوطًا خارجية أشبه بالأشكال الحروفية. وحتى في حال اعتبار هذه الأعمال منتمية إلى هذا أو ذاك من التيارات، فهي تصب في التحليل الأخير في مفهوم مدرسة الخرطوم. وإذا نظرت أيضًا إلى أعمال بعض أشهر الفنانين السودانيين اليوم وجدت أن أثر المدرسة عليهم جليّ لا تخطئه العين". فالمكوّن الأفريقي لدى التشكيليين السودانيين موظف للتعبير عن "ثقافة عربية إسلامية لا يمكن أن تنزع عنها العنصر الأفريقي".
ويبدو أن والد الفنّان ترك أثرًا لا يمحى، إذ هو الذي علّمه "الحرف العربي وأسراره الجمالية، بحيث صار اختياري لاتجاه الفنون - ولاحقًا المساهمة في تأسيس مدرسة الخرطوم - امتدادًا طبيعيًا للنحو الذي رباني عليه. كان رجلًا عالمًا لقبوه "مالك الصغير" لأنه كان مجودًا لعلوم القرآن والفقه وعارفًا باللغة شكلًا ومضمونًا".
سُجن إبراهيم الصلحي في عهد الرئيس الراحل جعفر النميري، الأمر الذي طبعه ببصمة لا تُمحى: "يقع وصفي لمرحلة السجن في شقين أحدهما الصدمة العميقة الأولية، وهذا شيء طبيعي. لكن الشق الثاني هو الذي يعنيني لأن السجن فتح لي الباب إلى ما أسمّيه "النمو العضوي للوحة". كانت المواد الورقية محرّمة علينا، ولذا فقد كنت آخذ ما يأتينا به الزوار من أكياس تُلف فيها الأطعمة والفاكهة، وأرسم على كلّ منها جزءًا من لوحة. وكانت كلّ هذه الأجزاء بالنسبة لي "جنيناً" له دوره المحدّد في "الكل"، أو اللوحة الجامعة لهذه الأجزاء. وكنت مضطرًا بالطبع لإخفاء هذه "الأجنة" بدفنها في التراب فلا تصادر وتُعدم. ثم حدث أن استدعوني فجأة. وفكّرت: هل أنا في طريقي إلى المشنقة؟ لكنني فوجئت بقرار الإفراج عني، ولم تتح لي الفرصة للعودة إلى السجن والتقاط كنزي المخبأ في أرضه. ظلّت تجربة "النمو العضوي للوحة"، أثرى ما خرجت به من المعتقل وربما لم أصل إليها لولاه. وربما أمكن تلخيص التجربة، رغم مرارتها، في أنها غيّرت مجرى حياتي الفنيّة وأوصلتني إلى جديد ربما لم يتأت لي بدونها".
ولعلّ هذه التجربة الفريدة والعميقة، هي التي تدفع الصلحي إلى عدّ اللوحة "كائنًا حيًا"، يقول معلّقًا على الأمر: "أخاطبها وأتوسل إليها أن تسهل مهمتي... نعم أخاطبها كما أخاطب شخصًا أمامي. فأسمعها وهي تجيبني: كفى هذا اللون هنا... الضوء كثير هنا وخافت هناك. زدني هذا وأنقصني ذاك".
درس إبراهيم الصلحي الفنون الجميلة في لندن والتصوير الفوتوغرافي في نيويورك، وأمضى فترة في مدينة بيروجا الإيطالية، حيث حرص على التعرّف إلى "أعمال النهضة عن قرب، وتحديدًا رائدها الأوّل جوتو. والواقع إن هذه الفترة هي التي رسخت قناعتي بأن المنظور، أي البعد الثالث، إنما هو إيهام لا معنى ولا داعي له. التشكيل بالنسبة لي يتمّ على مساحة مسطحة ويجب ألا يتجاوز ذلك". وخلال تجربته ومراسه الطويلين في التدريس، فإنه ينبّه طلابه إلى هذه الناحية، ويخبّرهم أن المنظور أساس في فهم التشكيل الفنّي، لكنه يضيف: "إذا كان لا بدّ منه لديك فخذ به، وإلا فأهمله لأن العمل الفني يستوي على سطح اللوحة ولا داعي لبعد ثالث له".
وقد يخيّل أن رأي إبراهيم الصلحي هذا، ناجمٌ عن موقف ديني من التصوير الواقعي، بيد أن الفنّان يوضح: "المسألة ليست موقفًا دينيًا، وإنما هي رؤيتي الخاصّة للتشكيل. والواقع أنني تقصيت لدى فقهاء في الدين مسألة ما إن كانت محاكاة الواقع محرّمة، ووجدت أن الإسلام لم يأت بشيء من هذا القبيل. وحتّى نحت التماثيل جائز، لأن المقصود في آخر الأمر، هو ما إن كان الأمر يتعلق بعبادتها. ولنذكر هنا أن الرسول محمد أباح لعائشة اللعب بدميتها. الذي أقوله هو أن البعد الثالث في العمل الفنّي لا ضرورة له، والأفضل أن يُترك هذا لمخيلة المشاهد فيكمله على النحو الذي يريد".
وفضلًا عن رأي الصلحي الخاصّ بتكوين اللوحة بعيدًا من البعد الثالث، فإن الألوان الترابية الغالبة في لوحاته قبل دخوله السجن، مستلهمة من التراث السوداني، وطبيعة المكان أيضًا: "وجدت أن أفضل السبل، هو توظيف مكونات لونية بسيطة هي الأبيض والأسود والبني وأحيانا الأحمر الطوبي، لأنها هي ألوان التراب في أم درمان، عاصمة البلاد الشعبية المعتبرة بؤرة الأعراق والثقافات السودانية،. هذه هي فترة الألوان الداكنة التي وجدت أنها أيضا أفضل السبل إلى التعبير عن السحر والغموض الذي يلف الأحاجي والأساطير السودانية مما قصّته علينا الجدات ونحن أطفال، وصار بطانة التكوين الفكري للوجدان السوداني بأجمعه. كان ضروريا بالنسبة لي أن "يشمّ" المشاهد رائحة التراب الأم درماني، ومعها كل ما تحمله من معان تراثية ووجدانية وهو ينظر إلى اللوحة".
ولا شكّ في أن ذكر التراث والماضي، يرسم صورة لسودان مضى، ذلك البلد الذي كان يبدأ بالصحراء ونخله في شماله، وينتهي بغاباته الاستوائية وأبنوسه في جنوبه، ويستضيف - جنبًا إلى جنب مع الإسلام - ديانات تبدأ من مختلف العقائد الوثنية وتنتهي بالمسيحية. وقد كانت هذه الهويّة المتعددة الأبعاد وقودًا لجدال عميق فرض نفسه على الساحة الفكرية السودانية، خاصة في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، ويبدو أن الجدال لا يزال مستمرًا حتى بعد انفصال الجنوب الأفريقي الخالي بشكل شبه كامل من الأثر العربي الإسلامي. وإذ يسأل الصلحي عن أثر الانفصال، وما بقي من مدرسة الخرطوم أو "تيّار الغابة والصحراء"، وفي ما لو صار الفنّ التشكيلي الشمالي مفتقرًا إلى رافده الأفريقي يقول: "لم ينقص قيد أنملة، لأن الأصل في الأمر الثقافة وليس الجغرافيا. انفصال الجنوب لا يعني أن الجنوبيين أخذوا من الشماليين ثقافتهم الأفريقية. وحتى من الناحية الجغرافية البحتة، فإن السودان الشمالي يضمّ قبائل النوبا وهي أفريقية صرف. إذن يظلّ حال مدرسة الخرطوم وتيار الغابة والصحراء على نفسه بغض النظر عن المستجدات المكانية".