05 نوفمبر 2024
عشية جولة حربية وشيكة
بجهود دبلوماسية سريعة، ورسائل تحذيرية متبادلة، وبردود أفعال تميزت بضبط النفس، والتحوط من كلا الجانبين، اللذين وجدا نفسيهما أمام تطور مفاجئ، لم يحدث مثيل له منذ حرب عام 1982، تم احتواء الموقف الناجم عن إسقاط الدفاعات الجوية السورية، وللمرة الأولى، لطائرة حربية إسرائيلية بالغة التفوق التكنولوجي، من دون أن يؤدي ذلك إلى إيقاف التفاعلات الجارية في واقع استراتيجي قيد التشكل في أكثر المناطق عرضةً للاشتعال في العالم، حيث توقف التصعيد الميداني، وبدأت، في الوقت ذاته، الحرب السياسية والاستعدادات على الأرض، لمواجهة ما قد تفضي إليه هذه الواقعة التي هزّت صورة الردع، ومست بالكبرياء العسكري الإسرائيلي.
ومع أن إسقاط مثل هذه الطائرة النوعية المتقدمة يعد حدثاً كبيراً في حد ذاته، وسابقة غير مسبوقة في تاريخ هذا النوع من الطائرات، التي لم تسقط أي واحدةٍ من طرازها قبلاً، وبدت وكأنها غير قابلة للسقوط أبداً، إلا أن هذه الواقعة، على أهميتها الفائقة، لم تكسر موازين القوة مع الأسف، ولم تغير قواعد اللعبة، التي لا تزال مختلةً لصالح الذئاب الإسرائيلية الجريحة في هذه الآونة، وقد لا تفضي تداعياتها أيضاً إلى تغيير قواعد الاشتباك، على الرغم من كل ما قيل عن تبدل المعطيات، واستحداث متغيرات ومدخلاتٍ عديدة في البيئة الإقليمية التي جاءت على غير ما تشتهي أشرعة السفينة الإسرائيلية، خصوصا في السنوات القليلة الماضية.
إذ ما إن تم احتواء الموقف بصورة مؤقتة، حتى بدأت عملية تصعيد منهجية، زاوجت فيها
إسرائيل بين الحرب الكلامية المركزة على الخطر الإيراني المستفحل في الجوار السوري، وتجنيد بعض الاحتياط، والدفع بأرتال الدبابات ومدفعية الميدان والمنظومات الصاروخية إلى سلسلة الهضاب المطلة من هضبة الجولان وجبل الشيخ على ضواحي العاصمة السورية، في مشهدٍ استعراضي تم تسريبه إلى وسائل الإعلام عن سابق قصد، بهدف بث رسالةٍ حربيةٍ تشي برفع درجة الجاهزية العسكرية إلى أعلى مستوى ممكن، عشية ما يبدو أنه استعداد لجولة حربية وشيكة، قد تقع في منزلة أعلى درجة مواجهة محدودة المكان والزمان، أي مواجهة قصيرة، وأدنى من درجة حربٍ مفتوحةٍ يصعب وضع نهايةٍ مرئية لها.
في التقديرات الإسرائيلية الرائجة في وسائل الإعلام العبرية، والمنقولة بدورها عن رجال أمن وجنرالات متقاعدين، أن المواجهة قادمة لا محالة، وأن حرباً محدودة في الزمان والمكان لا مفر منها، ما دامت عوامل التفجير المتراكمة قد انكشفت تماماً، وانزاحت عنها تلك القشرة الرقيقة، بل وازدادت درجة سخونتها في الآونة الأخيرة، وإن ما لحق بعنصر الردع الإسرائيلي من ضررٍ لا تخطئه العين، يتطلب سرعة المعالجة، كي لا يتم فهم ما جرى لطائرة إف 16 على أنه تغير مهم في المعادلة المستقرة منذ عقود طويلة خلت، وإن حائط الصد الإسرائيلي بات من الممكن خرقه في الموضع الذي يشكل درة التاج في المنظومة الأمنية.
ما يفصل بيننا وبين الجولة الحربية المرتقبة، في وقت لن يكون طويلاً، هو ما يمكن تسميته بتوفر "الذريعة الوجيهة" التي إن لم تكن موجودة في اللحظة السياسية الراهنة، فإن على متخذي قرار الحرب المحدودة تصنيعها من معطيات الواقع القائم، المفعم بالمزاعم والحقائق. وهنا لن يعوز هؤلاء المتبتلون في محراب القوة الجهد اللازم للعثور عليها على هذا النحو أو ذاك، بل وإيجادها من العدم إن اقتضت الضرورة، تماماً كما كان عليه الحال عشية كل الاعتداءات الإسرائيلية السابقة، فما بالك وجبهة الشمال (سورية ولبنان) تزخر بكل ما تحتاجه الماكينة الدبلوماسية الماهرة في تلفيق الصور وترويجها بمهارة شديدة، من ملابساتٍ كافيةٍ لتصنيع صورة الضحية المكرهة على الدفاع عن النفس؟
وأحسب أن إسرائيل قد حصلت بسرعة قياسية على ضالتها المنشودة، حين نظرت إلى إسقاط الطائرة المقاتلة، وهي معتدية على أي حال، على أنه هجوم إيراني سافر، وإن طهران هي التي تقف وراء قرار التصدّي للعدوان الإسرائيلي، بعد طول امتناع، حتى وإن كانت اليد التي أطلقت الصواريخ يداً سورية، باعتبار أن هذا الادعاء يوفر لأي عدوان محتمل مبرّراً قابلاً للتسويق في الغرب، كونه لا يستهدف بلداً مجاوراً، وإنما دولة أتت من خارج العالم العربي لتفرض هيمنتها على المنطقة، وتهدد المصالح الإسرائيلية، لا سيما أن الخطاب الإيراني قد راح يستثمر في واقعة إسقاط إف 16 بكثافة، ويعيد إنتاجها نصرا حققته الجمهورية الإسلامية.
وليس من شك في أن من شأن الأوضاع القائمة في الجغرافية السورية أن تزيد من تعقيدات أي قرار إسرائيلي بالمواجهة، أو الحرب أو الجولة الحربية المحدودة، نظراً إلى شدة التقاطعات
وكثرة اللاعبين فوق ثرى وتحت سماء هذه الرقعة المستباحة من جانب قوى إقليمية ودولية، بعضها لا ينظر بارتياح إلى الدخول الإسرائيلي على خط الحرب السورية، إن لم نقل إنه يرتاب حقاً في النوايا المبيتة لدولة إقليمية ظلت تحاذر، طوال الوقت، من الانزلاق في أتون حربٍ تبدو بلا نهاية مرئية، وهو ما يتطلب من تل أبيب، سلفاً، فك بعض الألغاز وسبر غور المواقف الحقيقية لدولةٍ مثل روسيا، وحتى الولايات المتحدة، قبل الإقدام على أي خطوة.
وإذا كان ما حدث في الأجواء السورية أخيرا، أكثر من مواجهة وأقل من حرب، فما هي الجولة الحربية المتوقعة المشار إليها في سياق هذه المطالعة؟ خصوصاً وأن كل صدام عسكري قد يخرج عن نطاق السيطرة، وإن ما يجري التخطيط له على شاشات الكمبيوتر في غرف العمليات وراء أبواب مغلقة، قد لا يتطابق مع المجريات المفتوحة دائماً على احتمالاتٍ لا حصر لها، الأمر الذي يمكن القول معه إن أي عدوان إسرائيلي محتمل من شأنه أن يفضي، من دون رغبة ذاتية، إلى فتح ما سمّته "غرفة عمليات حلفاء سورية" وبمبالغة شديدة، إلى فتح أبواب جهنم على الدولة العبرية، وفي ذلك ما يشير إلى أنه إذا كان من السهل البدء بالحرب، فإن من الصعب السيطرة على مجرياتها، ووضع نهاية لها متى شاء المعتدي.
لذلك كله، فإن أقصى ما يمكن توقعه هو أن توجه إسرائيل ضرباتٍ جراحيةً إلى عدد منتخب من مراكز التموضع الإيراني، بما في ذلك ما تقول إنها مراكز لصناعة الصواريخ الدقيقة، والأسلحة الكاسرة للتوازن، مع تجنب المس بمقدرات ما تبقى من الترسانة العسكرية السورية، أو مقار النظام المتهالك، كي لا تثير، من جهة أولى، حفيظة القيادة الروسية، التي يبدو أنها على غير وفاق تام مع الأجندة الإيرانية، وكي تكسب، من جهة ثانية، دعم الولايات المتحدة، المهتمة بتطوير مواجهةٍ أوسع نطاقاً مع طهران، قد تشكل العملية الإسرائيلية المحتملة حلقةً في سلسلةٍ لا نهاية لها من حلقات الاستراتيجية الأميركية، التي لا تزال مجرد حربٍ كلاميةٍ لا طائل من ورائها فعلاً.
ومع أن إسقاط مثل هذه الطائرة النوعية المتقدمة يعد حدثاً كبيراً في حد ذاته، وسابقة غير مسبوقة في تاريخ هذا النوع من الطائرات، التي لم تسقط أي واحدةٍ من طرازها قبلاً، وبدت وكأنها غير قابلة للسقوط أبداً، إلا أن هذه الواقعة، على أهميتها الفائقة، لم تكسر موازين القوة مع الأسف، ولم تغير قواعد اللعبة، التي لا تزال مختلةً لصالح الذئاب الإسرائيلية الجريحة في هذه الآونة، وقد لا تفضي تداعياتها أيضاً إلى تغيير قواعد الاشتباك، على الرغم من كل ما قيل عن تبدل المعطيات، واستحداث متغيرات ومدخلاتٍ عديدة في البيئة الإقليمية التي جاءت على غير ما تشتهي أشرعة السفينة الإسرائيلية، خصوصا في السنوات القليلة الماضية.
إذ ما إن تم احتواء الموقف بصورة مؤقتة، حتى بدأت عملية تصعيد منهجية، زاوجت فيها
في التقديرات الإسرائيلية الرائجة في وسائل الإعلام العبرية، والمنقولة بدورها عن رجال أمن وجنرالات متقاعدين، أن المواجهة قادمة لا محالة، وأن حرباً محدودة في الزمان والمكان لا مفر منها، ما دامت عوامل التفجير المتراكمة قد انكشفت تماماً، وانزاحت عنها تلك القشرة الرقيقة، بل وازدادت درجة سخونتها في الآونة الأخيرة، وإن ما لحق بعنصر الردع الإسرائيلي من ضررٍ لا تخطئه العين، يتطلب سرعة المعالجة، كي لا يتم فهم ما جرى لطائرة إف 16 على أنه تغير مهم في المعادلة المستقرة منذ عقود طويلة خلت، وإن حائط الصد الإسرائيلي بات من الممكن خرقه في الموضع الذي يشكل درة التاج في المنظومة الأمنية.
ما يفصل بيننا وبين الجولة الحربية المرتقبة، في وقت لن يكون طويلاً، هو ما يمكن تسميته بتوفر "الذريعة الوجيهة" التي إن لم تكن موجودة في اللحظة السياسية الراهنة، فإن على متخذي قرار الحرب المحدودة تصنيعها من معطيات الواقع القائم، المفعم بالمزاعم والحقائق. وهنا لن يعوز هؤلاء المتبتلون في محراب القوة الجهد اللازم للعثور عليها على هذا النحو أو ذاك، بل وإيجادها من العدم إن اقتضت الضرورة، تماماً كما كان عليه الحال عشية كل الاعتداءات الإسرائيلية السابقة، فما بالك وجبهة الشمال (سورية ولبنان) تزخر بكل ما تحتاجه الماكينة الدبلوماسية الماهرة في تلفيق الصور وترويجها بمهارة شديدة، من ملابساتٍ كافيةٍ لتصنيع صورة الضحية المكرهة على الدفاع عن النفس؟
وأحسب أن إسرائيل قد حصلت بسرعة قياسية على ضالتها المنشودة، حين نظرت إلى إسقاط الطائرة المقاتلة، وهي معتدية على أي حال، على أنه هجوم إيراني سافر، وإن طهران هي التي تقف وراء قرار التصدّي للعدوان الإسرائيلي، بعد طول امتناع، حتى وإن كانت اليد التي أطلقت الصواريخ يداً سورية، باعتبار أن هذا الادعاء يوفر لأي عدوان محتمل مبرّراً قابلاً للتسويق في الغرب، كونه لا يستهدف بلداً مجاوراً، وإنما دولة أتت من خارج العالم العربي لتفرض هيمنتها على المنطقة، وتهدد المصالح الإسرائيلية، لا سيما أن الخطاب الإيراني قد راح يستثمر في واقعة إسقاط إف 16 بكثافة، ويعيد إنتاجها نصرا حققته الجمهورية الإسلامية.
وليس من شك في أن من شأن الأوضاع القائمة في الجغرافية السورية أن تزيد من تعقيدات أي قرار إسرائيلي بالمواجهة، أو الحرب أو الجولة الحربية المحدودة، نظراً إلى شدة التقاطعات
وإذا كان ما حدث في الأجواء السورية أخيرا، أكثر من مواجهة وأقل من حرب، فما هي الجولة الحربية المتوقعة المشار إليها في سياق هذه المطالعة؟ خصوصاً وأن كل صدام عسكري قد يخرج عن نطاق السيطرة، وإن ما يجري التخطيط له على شاشات الكمبيوتر في غرف العمليات وراء أبواب مغلقة، قد لا يتطابق مع المجريات المفتوحة دائماً على احتمالاتٍ لا حصر لها، الأمر الذي يمكن القول معه إن أي عدوان إسرائيلي محتمل من شأنه أن يفضي، من دون رغبة ذاتية، إلى فتح ما سمّته "غرفة عمليات حلفاء سورية" وبمبالغة شديدة، إلى فتح أبواب جهنم على الدولة العبرية، وفي ذلك ما يشير إلى أنه إذا كان من السهل البدء بالحرب، فإن من الصعب السيطرة على مجرياتها، ووضع نهاية لها متى شاء المعتدي.
لذلك كله، فإن أقصى ما يمكن توقعه هو أن توجه إسرائيل ضرباتٍ جراحيةً إلى عدد منتخب من مراكز التموضع الإيراني، بما في ذلك ما تقول إنها مراكز لصناعة الصواريخ الدقيقة، والأسلحة الكاسرة للتوازن، مع تجنب المس بمقدرات ما تبقى من الترسانة العسكرية السورية، أو مقار النظام المتهالك، كي لا تثير، من جهة أولى، حفيظة القيادة الروسية، التي يبدو أنها على غير وفاق تام مع الأجندة الإيرانية، وكي تكسب، من جهة ثانية، دعم الولايات المتحدة، المهتمة بتطوير مواجهةٍ أوسع نطاقاً مع طهران، قد تشكل العملية الإسرائيلية المحتملة حلقةً في سلسلةٍ لا نهاية لها من حلقات الاستراتيجية الأميركية، التي لا تزال مجرد حربٍ كلاميةٍ لا طائل من ورائها فعلاً.
دلالات
مقالات أخرى
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024