بدا تحقيق التراث العربي القديم، في أوّل الأمر، عملاً مقصوراً على المستشرقين، الذين عكفوا على استنقاذ مخطوطاتنا العربية المنتشرة في مكتبات أوروبا، تحقيقاً ونشراً وفهرسة، في الوقت الذي كاد التراث العربي يضيع على أيدي أبنائه الذين أهملوه، حتى قال المفكّر السوري، محمد كرد علي (1876 - 1953): "لولا عناية المستعربين بآثارنا لما انتهت إلينا تلك الدرر الثمينة".
وترجع جهود المحقّقين المستشرقين والمستعربين إلى القرن السادس عشر على أيدي مجموعة من الروّاد مثل: ج. جوليوس (1596 - 1676)، وبروك إدوارد "الأب" (1604 - 1691) و"الابن" (1648 - 1727).. الذين نشروا نصوصاً عربية قديمة، مصحّحة مضبوطة، بقيت سنوات طويلة طيّ النسيان.
في المقابل، لم يبدأ العرب بنشر تراثهم إلا بعد إنشاء المطبعة الأميرية في بولاق 1820، ثم إنشاء دار الكتب "كتب خانة" سنة 1870، إذ صدر عنهما الكثير من كتب التراث الذي كان مخطوطاً، لكن تلك الإصدارات اتّسمت جميعها بأنّها طُبعت من دون تحقيق أو مراجعة.
ظلّ الحال على ما هو عليه، باستثناء شذرات نقدية على طبعات الكتب المنشورة، ومحاولات متفرّقة للاستفادة من جهود الأساتذة المستشرقين، حتى قيّض للعرب من يضع لهم الخطوات الأولى للعمل المنهجي، وفق أصول واضحة وقواعد منضبطة، فكانَ على رأسهم شيخ المحققين الأستاذ عبد السلام هارون، الذي كان معنيّاً بتعريبِ هذا الإرث الفنّي والأدبي.
أثرى هارون المكتبة العربية، حتى صار رائداً من روّاد الحركة العلمية المعنية بالتراث العربي والإسلامي، حتى قيل عنه: "عبد السلام هارون محقّق الكتب العُمد، والأسفار الرئيسية في مكتبة العرب". وقيل أيضاً: "لم يخُطَّ أحدٌ في التراث العربي سطراً إلا وللعالم الجليل عبد السلام هارون مِنَّة عليه، ويَندر أن يتعامل أحد مع المصادر العربية دون أن يَستعين بمصدر من تحقيقات الشيخ الجليل، فقد قدَّم للمكتبة العربية دواوين التراث مجلوَّة في صورة بهيَّة، وزيَّنها بتعليقات وفهارس".
ولد عبد السلام محمد هارون في الإسكندرية في 18 يناير/ كانون الثاني 1909، لأسرة كانت لها عناية كبيرة بالعلم والثقافة، إذ التحق وهو في الثانية عشرة من عمره بالأزهر الشريف، بعد أن أتمّ حفظ القرآن الكريم، ومبادئ القراءة والكتابة، واستمرّ متفوّقاً في دراسته، حتى التحق بدار العلوم التي تخرّج فيها سنة 1945.
عمل هارون في أوّل الأمر مدرّساً بالتعليم الابتدائي، لكن سرعان ما انتقل سنة 1945 مدرّساً بكلية الآداب في جامعة الإسكندرية (جامعة فاروق حينها)، فكانت المرّة الوحيدة في تاريخ الجامعات التي ينتقل فيها مدرّس من التعليم الابتدائي إلى السلك الجامعي مباشرة، فقد ذاعت شهرته بفضل ما أصدره مبكراً من مؤلّفات وتحقيقات ودراسات. ثم انتقل هارون إلى دار العلوم، وفيها أخذ في الترقي في السلك الجامعي. إلى أن جاءت سنة 1966، وفيها دُعي مع نخبة من الأساتذة المصريين لإنشاء جامعة الكويت، حيث عُيّن رئيساً لقسمي اللغة العربية والدراسات العليا حتى سنة 1975، وأثناء ذلك اختير هارون عضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة 1969.
يقول عبد السلام هارون: "إن التحقيق لا يقوى عليه إلا من وُهِبَ خُلّتين شديدتين: الصبر، والأمانة". وقد ظهرت هاتان الخُلّتان في هارون نفسه مبكراً جداً، فهو الذي لم يكن قد بلغ السادسة عشرة من عمره حين أصدر أوّل أعماله في مجال التحقيق سنة 1925، وهو كتاب "متن أبي شجاع" بضبطه وتصحيحه ومراجعته. وهو يقول عن ذكرياته حول هذا الكتاب: "ولك أن تتصور مدى فرحة طالب صغير بظهور اسمه على كتاب مقرّر رسمياً على الطلاب في ذلك الوقت المبكر".
كما أنه لم يكن قد تجاوز عمر الثامنة عشرة، حين أصدر الجزء الأول من كتاب "خزانة الأدب" للبغدادي سنة 1927. وهو الكتاب الذي أتمّ أربعة أجزاء منه، وهو لا يزال طالباً في دار العلوم، في حين أتمّ باقي أجزاء الكتاب التي بلغت ثلاثة عشر مجلداً بعد ذلك.
ويبدو أن اتجاهه المبكر لتحقيق التراث هو الذي جعل شغله الشاغل أن يوجّه عناية الطلاب إلى التحقيق في سنوات دراستهم العليا، تحت بصر ورعاية أساتذة مميزين في هذا الفن، حين قال: "وإنه لما يثلج الصدر أن تتجه جامعتنا المصرية اتجاهاً جديداً إزاء طلابها المتقدمين للإجازات العلمية الفائقة، إذ توجههم إلى أن يقدّموا مع رسالاتهم العلمية تحقيقاً لمخطوط يمتّ بصلة إلى موضوع الرسالة، وعسى أن يأتي اليوم الذي يكون فيه هذا الأمر ضريبةً علمية لا بدّ من أدائها".
تعدّدت جهود عبد السلام هارون في تحقيق كتب التراث، بصورة ملفتة ومميزة، فلم تكن تمرّ سنة إلا ويَنشر فيها تحقيقاً جديداً، وهو ما دفع طه حسين إلى أن يختاره ضمن اللجنة المنوط بها إحياء تراث أبي العلاء المعري، وهو لا يزال شاباً.
تجاوزت مؤلفات عبد السلام هارون المئة وعشرين كتاباً، بين تأليف وتحقيق، إضافة إلى مئات المقالات في الصحف والمجلات.
وتشير قائمة أعماله إلى عناية خاصة بتراث الجاحظ، حتى إنه حصل بعد تحقيقه الرائع لكتاب "الحيوان" على الجائزة الأولى للنشر والتحقيق العلمي من مجمع اللغة العربية. إضافة إلى تحقيقاته لـ "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس، و"صحاح العربية" للجوهري، وأجزاء من "تهذيب اللغة" للأزهري. و"الكتاب" لسيبويه في خمسة أجزاء. و"خزانة الأدب" للبغدادي، و"الاشتقاق" لابن دريد، ومجالس ثعلب، وأمالي الزجاجي، وديوان الحماسة والأصمعيات والمفضّليات، و"جمهرة أنساب العرب" لابن حزم، وغيرها.
حصل عبد السلام هارون سنة 1981 على جائزة الملك فيصل العالمية، لجهوده في تحقيق التراث، في حين انتخب أميناً عاماً لمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1984. وقد ظلّ وفياً للتراث وتحقيقه حتى وفاته عن 79 عاماً، وذلك في 16 إبريل/ نيسان 1988.