05 نوفمبر 2024
عبثية "الكاريدور" البرّي الإيراني
منذ نشرت وكالة أنباء إيرانية، تتبع الحرس الثوري، صورة للجنرال قاسم سليماني، وهو يتوسط مجموعة من المقاتلين الأفغان في منطقةٍ ما على الحدود السورية - العراقية، حتى راحت ماكنة إعلام ما يسمى محور المقاومة والممانعة تتحدث عن نجاح المليشيات الطائفية في إقامة رأس جسرٍ يصل ما بين صحراء الأنبار والبادية السورية، وتحقيق حلم نظام الولي الفقيه ببناء "كاريدور" برّي يصل بين طهران وبيروت، تجسيداً لأحد أهم مظاهر بعث الإمبراطورية الفارسية.
ومع أنه لا تأكيد من أي مصدر مستقل، لحقيقة تلك الصورة الفوتوغرافية المأخوذة للجنرال سليماني وسط صحراء قاحلة، لا معالم ذات دلالة فيها، إلا أن ذلك لا ينفي بالضرورة وصول وحداتٍ من المليشيات الشيعية إلى نقطة ما تقع على الحدود المشتركة بين البلدين العربيين الرئيسيين في المشرق العربي، وإن موضع قدم إيراني قد تأسس في تلك الفيافي الجرداء التي كان تنظيم الدولة الإسلامية قد وضعها تحت إمرته، بعد انسحاب كل القوى الأخرى منها، بما في ذلك جيش النظام والجيش الحر، في غضون الأعوام الثلاثة الماضية.
كان لافتاً ومثيراً لأسئلةٍ ظلت بلا أجوبة، حول مغزى اختيار الإعلام الإيراني تلك الصورة اليتيمة للجنرال الذي يقود المليشيات متعدّدة الجنسيات، بصحبة أعضاء أفغانية من مليشيا "فاطميون" قليلة الكفاءة، وليس وسط حشد شعبي عراقي مثلاً، أو مليشيا حزب الله ذات الخبرات العسكرية المتراكمة، وهو ما كان سيضفي على المبالغات الإعلامية الايرانية المعهودة بعض الصدق والجاذبية، ويعطي للخطوة المبشرة بقرب تحقق الحلم الإيراني القديم وزناً أكبر بكثير مما تبثه صورة أفراد ليسوا من النسيج الاجتماعي لهذه المنطقة التي تشهد إعادة هندسة ديمغرافية حثيثة.
جاءت هذه الاندفاعة الإيرانية إلى قلب البادية السورية، وسط جملةٍ من المتغيرات والشواهد
ا لميدانية على احتدام المعارك بين المتصارعين، أكثر من أي وقت مضى، على تركة تنظيم الدولة الإسلامية المتراجع من أجل الدفاع عن معقليه في الموصل والرّقة. كما جاءت هذه النقلة أيضاً في غمرة تدخلات إقليمية ودولية أوسع مدىً، وأعمق غوراً مما كانت عليه طوال السنوات الست السابقة، خصوصاً بعد أن زاد الحضور العسكري الأميركي، في عهد إدارة دونالد ترامب، وانفتحت شهية جنرالات "البنتاغون" أكثر من ذي قبل، على خوض غمار المواجهات المباشرة، لنسخ صورة الولايات المتحدة المهادنة والمتقهقرة وغير اللائقة في العالم، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط.
في عهد الإدارة الجديدة، لم يعد الحضور الأميركي في سورية والعراق مجرد حضور رمزي، لا يقدم أو يؤخر في حسابات القوى المحلية والخارجية المتصارعة على النفوذ والمصالح في هذه المنطقة. وفي المقابل، لم يعد الانخراط الروسي في الأزمة السورية كلّي القدرة، ولم تعد موسكو صاحبة الكلمة النهائية المطلقة في شؤون هذه الأزمة المعقدة وشجونها. وفيما بدا أن القوة الإقليمية التركية قد اكتفت بنصيبٍ متواضع من الكعكة السورية، بدت شهية القوة الإقليمية الإيرانية لا تزال مفتوحة، لتحقيق مزيدٍ من المكاسب الميدانية والسياسية، بما في ذلك إقامة الكاريدور الواصل بينها وبين البحر الأبيض المتوسط.
سندع القوة الإقليمية الثالثة، وهي إسرائيل، جانباً خارج هذا السياق التحليلي، كي نلقي مزيداً من الضوء على عبثية الحلم الإيراني بالوصول براً إلى شاطئ البحر المتوسط، وسط سلسلة من المصاعب والتحديات التي تقف قبالة هذا المشروع الإيراني الطموح، إن لم نقل هذا المشروع الأكبر حتى من قدرة دولةٍ عظمى على تحقيقه، والدفاع عنه إلى ما لا نهاية، وتلبية شروط تكريسه حقيقةً سياسيةً من حقائق الشرق الأوسط، حتى ولو جنّدت له طهران كامل عديد جيشها النظامي، وعدة مليشياتها الطائفية، كونه مشروعاً غير واقعي ولا مستقبل له، في ظل جملةٍ من الاستحالات الجغرافية والديمغرافية التي لا يمكن تطويعها بالقوة العسكرية المجرّدة.
وأكثر من ذلك، ليست إيران اللاعب الوحيد في هذه المنطقة، وليست صاحبة اليد العليا في تقرير مستقبل المشرق العربي، في ظل وجود لاعبين كثيرين، في مقدمتهم اللاعب الأميركي الذي تتقدم جدول أعماله، في هذه الآونة، مهمة تطويق إيران، والحد من نفوذها، حتى لا نقول تقليم أظافرها في كامل مساحة الجناح الآسيوي من العالم العربي، الذي دخل في شراكة استراتيجية بعيدة المدى مع الولايات المتحدة، حيث يقع، في موقع القلب من هذه الاستراتيجية، تكسير أذرع إيران الطويلة.
ولعل ما جرى في البادية السورية، لا سيما في مثلث منطقة النتف الحدودية السورية مع
العراق، في الأسابيع القليلة الماضية، من غارات جوية أميركية ضد محاولات التوسع الإيراني في تلك المنطقة الحساسة، ناهيك عن تحشيد مزيدٍ من القوة الأميركية على الأرض في شمال سورية وفي شرقها، خير دليل على شدة المصاعب وجسامة التحديات التي تنتظر إيران، إذا ما واصلت مشروعها الخاص بالجسر البري في تلك الرقعة الخالية من الزرع والضرع، وعمدت إلى تكبير حجمها الرمزي في البادية التي من المرجح ألا تستقر أوضاعها الميدانية في المدى المنظور، طالما أن تنظيم داعش لن يجد ملاذاً له غير هذه المناطق الصحراوية الشاسعة.
وبغض النظر عن مدى فاعلية تنظيم الدولة الإسلامية في المرحلة التالية لخروجه من الموصل والرقة، فإنه لا يمكن إغفال حقيقة أن وحداتٍ من الجيش السوري الحر لا تزال تعمل في هذه المنطقة، وأنها قد تلعب دوراً أكبر في المستقبل، إذا تيسّر لها مزيد من الدعم اللوجستي الأميركي، كما هو مرجح بالفعل، الأمر الذي من شأنه أن يسد مزيداً من الفراغات الميدانية الناجمة عن انحسار رقعة نفوذ "الدولة الإسلامية"، وهو أمر يصب في صميم مصالح أميركا الساعية، على عجل، إلى توسيع نطاقات تحالفاتها مع كل من الوحدات الكردية والفصائل العربية السورية.
إذا أضفنا إلى ذلك كله حقيقة أن الوضع العراقي لن يستقر في المستقبل القريب، فضلاً عما قد يجري فيه من صراعاتٍ بين القوى الشيعية المهيمنة، فذلك وحده كفيلٌ بإعاقة المشروع التوسعي الإيراني في مبتدئه، وربما إعادته إلى نقطة الصفر، الأمر الذي يرجح بقوة فرضية أن "الكاريدور" الإيراني إلى البحر المتوسط، دونه خرق القتاد، حتى لا نقول إنه أضغاث أحلام ليلة صيف غمرت آيات الله في لحظة زمنية عابرة، خصوصاً وأن من غير الممكن معاندة حقائق التاريخ والجغرافيا، ناهيك عن أن أكتاف النظام الإيراني المنهكة أضعف من قدرتها على حمل أعباء هذا الطموح القاتل لأصحابه.
ومع أنه لا تأكيد من أي مصدر مستقل، لحقيقة تلك الصورة الفوتوغرافية المأخوذة للجنرال سليماني وسط صحراء قاحلة، لا معالم ذات دلالة فيها، إلا أن ذلك لا ينفي بالضرورة وصول وحداتٍ من المليشيات الشيعية إلى نقطة ما تقع على الحدود المشتركة بين البلدين العربيين الرئيسيين في المشرق العربي، وإن موضع قدم إيراني قد تأسس في تلك الفيافي الجرداء التي كان تنظيم الدولة الإسلامية قد وضعها تحت إمرته، بعد انسحاب كل القوى الأخرى منها، بما في ذلك جيش النظام والجيش الحر، في غضون الأعوام الثلاثة الماضية.
كان لافتاً ومثيراً لأسئلةٍ ظلت بلا أجوبة، حول مغزى اختيار الإعلام الإيراني تلك الصورة اليتيمة للجنرال الذي يقود المليشيات متعدّدة الجنسيات، بصحبة أعضاء أفغانية من مليشيا "فاطميون" قليلة الكفاءة، وليس وسط حشد شعبي عراقي مثلاً، أو مليشيا حزب الله ذات الخبرات العسكرية المتراكمة، وهو ما كان سيضفي على المبالغات الإعلامية الايرانية المعهودة بعض الصدق والجاذبية، ويعطي للخطوة المبشرة بقرب تحقق الحلم الإيراني القديم وزناً أكبر بكثير مما تبثه صورة أفراد ليسوا من النسيج الاجتماعي لهذه المنطقة التي تشهد إعادة هندسة ديمغرافية حثيثة.
جاءت هذه الاندفاعة الإيرانية إلى قلب البادية السورية، وسط جملةٍ من المتغيرات والشواهد
في عهد الإدارة الجديدة، لم يعد الحضور الأميركي في سورية والعراق مجرد حضور رمزي، لا يقدم أو يؤخر في حسابات القوى المحلية والخارجية المتصارعة على النفوذ والمصالح في هذه المنطقة. وفي المقابل، لم يعد الانخراط الروسي في الأزمة السورية كلّي القدرة، ولم تعد موسكو صاحبة الكلمة النهائية المطلقة في شؤون هذه الأزمة المعقدة وشجونها. وفيما بدا أن القوة الإقليمية التركية قد اكتفت بنصيبٍ متواضع من الكعكة السورية، بدت شهية القوة الإقليمية الإيرانية لا تزال مفتوحة، لتحقيق مزيدٍ من المكاسب الميدانية والسياسية، بما في ذلك إقامة الكاريدور الواصل بينها وبين البحر الأبيض المتوسط.
سندع القوة الإقليمية الثالثة، وهي إسرائيل، جانباً خارج هذا السياق التحليلي، كي نلقي مزيداً من الضوء على عبثية الحلم الإيراني بالوصول براً إلى شاطئ البحر المتوسط، وسط سلسلة من المصاعب والتحديات التي تقف قبالة هذا المشروع الإيراني الطموح، إن لم نقل هذا المشروع الأكبر حتى من قدرة دولةٍ عظمى على تحقيقه، والدفاع عنه إلى ما لا نهاية، وتلبية شروط تكريسه حقيقةً سياسيةً من حقائق الشرق الأوسط، حتى ولو جنّدت له طهران كامل عديد جيشها النظامي، وعدة مليشياتها الطائفية، كونه مشروعاً غير واقعي ولا مستقبل له، في ظل جملةٍ من الاستحالات الجغرافية والديمغرافية التي لا يمكن تطويعها بالقوة العسكرية المجرّدة.
وأكثر من ذلك، ليست إيران اللاعب الوحيد في هذه المنطقة، وليست صاحبة اليد العليا في تقرير مستقبل المشرق العربي، في ظل وجود لاعبين كثيرين، في مقدمتهم اللاعب الأميركي الذي تتقدم جدول أعماله، في هذه الآونة، مهمة تطويق إيران، والحد من نفوذها، حتى لا نقول تقليم أظافرها في كامل مساحة الجناح الآسيوي من العالم العربي، الذي دخل في شراكة استراتيجية بعيدة المدى مع الولايات المتحدة، حيث يقع، في موقع القلب من هذه الاستراتيجية، تكسير أذرع إيران الطويلة.
ولعل ما جرى في البادية السورية، لا سيما في مثلث منطقة النتف الحدودية السورية مع
وبغض النظر عن مدى فاعلية تنظيم الدولة الإسلامية في المرحلة التالية لخروجه من الموصل والرقة، فإنه لا يمكن إغفال حقيقة أن وحداتٍ من الجيش السوري الحر لا تزال تعمل في هذه المنطقة، وأنها قد تلعب دوراً أكبر في المستقبل، إذا تيسّر لها مزيد من الدعم اللوجستي الأميركي، كما هو مرجح بالفعل، الأمر الذي من شأنه أن يسد مزيداً من الفراغات الميدانية الناجمة عن انحسار رقعة نفوذ "الدولة الإسلامية"، وهو أمر يصب في صميم مصالح أميركا الساعية، على عجل، إلى توسيع نطاقات تحالفاتها مع كل من الوحدات الكردية والفصائل العربية السورية.
إذا أضفنا إلى ذلك كله حقيقة أن الوضع العراقي لن يستقر في المستقبل القريب، فضلاً عما قد يجري فيه من صراعاتٍ بين القوى الشيعية المهيمنة، فذلك وحده كفيلٌ بإعاقة المشروع التوسعي الإيراني في مبتدئه، وربما إعادته إلى نقطة الصفر، الأمر الذي يرجح بقوة فرضية أن "الكاريدور" الإيراني إلى البحر المتوسط، دونه خرق القتاد، حتى لا نقول إنه أضغاث أحلام ليلة صيف غمرت آيات الله في لحظة زمنية عابرة، خصوصاً وأن من غير الممكن معاندة حقائق التاريخ والجغرافيا، ناهيك عن أن أكتاف النظام الإيراني المنهكة أضعف من قدرتها على حمل أعباء هذا الطموح القاتل لأصحابه.
مقالات أخرى
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024