شكّلت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية الفاشلة، واحدة من المعالم الأساسية التي انطلق بها العام 2014 في الساحة الفلسطينية. فهذا العام بدأ بالسير الحثيث على خطى هذه المفاوضات التي تم استئنافها وفق "تفاهمات سبتمبر"، وانتهت في مطلع أبريل/نيسان بعد أن تراجع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عن تنفيذ الدفعة الرابعة والأخيرة من إطلاق الأسرى القدامى، فيما توجّهت السلطة للتوقيع على طلب الانضمام إلى المعاهدات الدولية.
ولا يمكن التطرّق إلى تفاصيل العام الماضي بمعزل أو بتجاهل للركيزة الأساسية لاستراتيجية السلطة الفلسطينية المتمثّلة بالتنسيق الأمني، عقيدة وطريقاً وخياراً أساسياً يدعم الخيار الاستراتيجي لسلطة رام الله المتمثل بالمفاوضات، مع تصريحات متفرقة غير ملزمة تدعو للمقاومة الشعبية التي لم تحدد هويتها ولا طريقها، وانتهت عملياً باستشهاد الوزير الفلسطيني زياد أبو عين.
وفيما تمكنت السلطة حتى مطلع يونيو/حزيران، من تطبيق عقيدة التنسيق الأمني، وسط سكوت على مضض من قِبل الأطراف الفلسطينية المختلفة، باستثناء حركة "حماس"، كان واضحاً أن المصالحة الفلسطينية التي وُقّعت بنود اتفاقها الأولي بعد فشل مسار "مفاوضات سبتمبر" وتنصّل حكومة نتنياهو منها، ظلت هي الأخرى ورقة تلوّح بها السلطة الفلسطينية في وجه حكومة نتنياهو.
وحتى بعد التوقيع على اتفاق المصالحة والزيارات التي قام بها مسؤولو رام الله إلى غزة، لم توقف السلطة الفلسطينية ولو للحظة الاتصالات المكثفة واليومية مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، ولا حتى محاولات الرئيس الفلسطيني محمود عباس "اختراق" المجتمع الإسرائيلي والرهان على الوزيرة الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني وأعضاء حزب العمل الإسرائيلي.
والواقع أن هذا التمسك بالتنسيق الأمني الذي اعتبره الرئيس الفلسطيني بأنه مقدس، شكّل لإسرائيل عاملاً مساعداً وجزءاً أساسياً في سياستها نحو المزيد من البناء الاستيطاني في الأراضي المحتلة والمضي قدماً في تهويد القدس المحتلة، على الرغم من "المناوشات" الإعلامية والتراشق بين حكومة نتنياهو وأقطابها من جهة، وبين عباس وأقطاب سلطته في رام الله.
ومثلما استفادت حكومة نتنياهو من أجواء الثورة المضادة في العالم العربي، فقد استفادت أيضاً من قدسية التنسيق الأمني، في مطاردة المقاومة الفلسطينية وقمع حركة "حماس" داخل الضفة الغربية، مستعينة بالمعلومات المتدفقة بشكل شبه يومي، باعتراف الإعلام الإسرائيلي والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، التي كانت تحذر باستمرار من مخاوف انهيار هذا التنسيق.
من جهتها، لوّحت السلطة الفلسطينية بالتنسيق الأمني في وجه اتهامات نتنياهو لها بالتطرف، وكدليل على محاربتها "الإرهاب" والتطرف، فيما كان الرد الإسرائيلي، وآخره الأسبوع الماضي على لسان وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان ووزير شؤون الاستخبارات الإسرائيلي يوفال شطاينتس، بأن التنسيق كان مصلحة للسلطة الفلسطينية وخدمها أكثر مما خدم إسرائيل، وكان طريقاً وحيداً للإبقاء على السلطة الفلسطينية.
وقد أعطى التنسيق الأمني ثماره بشكل لا يدع مجالاً للشك بأهميته لإسرائيل بعد عملية اختطاف المستوطنين الثلاثة وقتلهم، وما أعقبه من شن إسرائيل حملة واسعة في الضفة الغربية ضد عناصر "حماس"، وقتل الشهيد أحمد أبو خضير.
فقد اشتعلت انتفاضة القدس بعد مقتل أبو خضير وانتشرت نيرانها وارتفعت ألسنتها، لكن الأجهزة الأمنية الفلسطينية وباعتراف نتنياهو نفسه، كانت صاحبة اليد الطولى في منع انتشار التظاهرات إلى الضفة الغربية، حتى عندما اندلعت التظاهرات والمواجهات في فلسطين الداخل (الجليل والمثلث والنقب). وبينما تم قمع التظاهرات أو أي محاولات للتظاهر في مدن الضفة الغربية، كانت التظاهرات تندلع يومياً في بلدات الداخل بالتوازي مع القدس المحتلة.
وحالت الانتفاضة في القدس والتظاهرات في الداخل، من دون مسارعة حكومة نتنياهو إلى بدء عدوانها على قطاع غزة، الذي تأخر بفعل خوف نتنياهو من خوض حرب على ثلاث جبهات، الضفة والقدس وغزة، إلى أن تم عملياً فرض تهدئة على قيادات الداخل الفلسطيني عبر تدخّل السفير البريطاني في تل أبيب ماثيو غولد، في أوائل شهر يونيو/حزيران من جهة، وقمع سلطة عباس للتحرك الشعبي في الضفة الغربية في الثامن من يوليو/تموز الماضي.
وحتى خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي استمر حتى السادس والعشرين من أغسطس/آب الماضي، حرصت إسرائيل على إبقاء شعلة التنسيق الأمني، وزادت خلال مفاوضات القاهرة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق نار، في السعي لتكريس مكانة عباس كطرف للاتفاق، لكنها سرعان ما عادت وتنكّرت للسلطة الفلسطينية، عندما أعلن نتنياهو في سبتمبر/أيلول أن عباس ليس طرفاً في التفاوض قبل أن يثبت نفسه في القطاع وأمام حركة "حماس".
إلى ذلك، تمكنت حكومة نتنياهو من فرض شروطها على السلطة الفلسطينية في كل ما يتعلق بالدور الإسرائيلي في إعادة إعمار القطاع، وفي منع السلطة طيلة الفترة المذكورة من تحقيق خطة عباس بالتوجّه للأمم المتحدة لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي لإنهاء الاحتلال، تحت غطاء أن الخطوة أحادية الجانب.