عادات لا يعرفُ عنها أحد

12 يناير 2020

(إدوارد دوبوف)

+ الخط -
تملك كلّ كاتبة عادات سرّية تخبّئها تحت مظهر طبيعي، لا يشي بشذوذ، أو تطرّف، أو جنون. غير أنّها خلف الأبواب، تُظهر عاداتها، تلك التي تقوم بها وحدها غالباً، لا يحضر معها خلال ممارستها إلّا بضعة شهود صامتين، من قبيل: الخزانات، والمرايا، والنّوافذ. هذه الكائنات، التي تُلبّست متحدّثة إليها، باستمرار، تعتبرها مستمعاً جيداً، لا يقاطع ولا يزعج بأحكام قيمة، ولا يعلّق على ما تقوله.
هذه العادات لا تُعلنها، ولا تُخبر عنها أحبّاءها، أو أصدقاءها، ولا حتّى زملاء الكار. من يدري، قد يستخدمها أحدهم ضدّها، ليُعلن جنونها، أو يستند إليها يوماً، إن قال: إنّها "تأكلُ الدّواء"، هذا بالتّعبير المغربي، أنّها تشرب أقراصاً؛ وكم هو بليغٌ وموحٍ، تعبيرُ الأكل بدل الشُّرب. وهو تعبير عن سوء المُنحدر أيضاً: امرأةٌ تأكل الدّواء، وصمةٌ في جبين من يؤدّي انتماؤها إلى الفئة "الطبيعية"، دوراً كبيراً في تحديد مَهرها، وصلاحيتها للزّواج، وتكوين أسرة، وإنجاب ولاة العهد الأفاضل للرّجل الشرقي. من باب "تحسين النّسل"، تماماً كما في إصطبلات الخيول؛ الفرسُ الصّهباءُ أكثر إقبالاً في التّناسل، لتحسين نسل الخيول (هذه معلومة مُختلَقة، وأي مصادفةٍ بينها وبين الواقع ضربةُ حظ "معلّمة").
يمرّ المقال هنا على العادات الأكثر استفحالاً لدى كاتبة، من دون تحديد جنس ما تكتبه، لكن يمكن اعتبارها مرجعاً، كلّما ساقتك الأقدار لملاقاتها:
المَضْمَضة: قبل الكلام، تمضمضُ الكاتبة الحروف، وتزنُ الكلمات، لتبصق أكثرها، مثلما تمحو 
الكلمات المترهّلة في نصّ. لذا تأخذُ وقتها في الإجابة، لن تردّ بنعم أو لا، فلا شيءَ قطعيٌّ بهذه الدّرجة عندها، وهناك عدد أكثر مما يجب، من "لكن"، يعترضن كلّ جواب؛ لذا "ربما"، تكون الجواب الأفضل، أو "من يدري"؟ أو "لعلّ الأمر كذلك". هي إجابات (ستاندار/ قياس)، توفّر عليها عبء التّفكير، وإحراج التّلعثم في الإجابة. هي التي يُفترض أن الكلمة على حافّة لسانها. نعم هي كذلك، وإنّما ليست كلمة واحدة، بل كلماتٌ كثيرة تزدحمُ على لسانها. وبين اختيار الأدقّ، والأكثر كثافة واختصاراً، والأقلّ وزناً، والأخف حملاً؛ سيمرُّ دهر، يجب استعماله في القراءة، أو الكتابة أو التّحديق في الفراغ، ببلاهةٍ تدرك وجودها، بل تسمح بوجودها، من أجل تخفيفِ حمل الخلايا الدّماغية المرهقة في ساعات العمل الإضافية؛ أو بعد أرق، أو استيقاظٍ مبكّر لسبب من الأسباب، وما أكثر حالات الطوارئ في حياة الكاتبة! ثم، تقول مثل جيل دولوز: "الكلام قذر، والكتابة نظيفة". الكتابة تسمح بالمحو، بالتفكير، بالتّردد، بالتلعثم؛ والكلام لا، إنه حاد ونهائي.
الاستِعارات: تُكثر من الاستعارات، لا تستقيم الجملة لديها، إلا باستعارة. تفكّر أنّها مجرّد شخصية في فيلم الحياة، لذا تظن أنها مثل آدام درايفر في فيلم "باترسون"، تحلم بالشعر والقصص، إلى اللّحظة التي يقوم فيها كلبٌ "أو كائن آخر" بتمزيق دفتر يحمل كلما كتبت، ويصفعها الفراغ الذي تجدُ نفسها فيه؛ فهي لا تعرف شيئاً آخر غير أن تفيق صباحاً، لتبحث عن استعارة تصف بها يومها القادم.
ثمّ، يأتي ساذج مثلها، ويمدّها بدفتر جديد، معيداً لعنة الإيمان بالكتابة إليها. سيكون ذلك الشخص شبيهاً، يُسافر إلى قارة أخرى، باحثاً عن مدينتها الضّئيلة على الخريطة، ليزورها، فقط لأنّها أنجبت شاعراً (ة) يحبه (ا).
ليست هي بالطبع، تلك الشّاعرة، لكنها مع ذلك تشعر بأنّ في ذلك الدفتر كل أسرار السّعادة؛ ويكفي أن تكتب لتجدها، وسيكون ذلك الشاعر نبيّاً أرسله الشّعر، على واجه التخصيص. ويوماً ما، سيزور شاعر آخر، قبرها، قادماً من أقصى الأرض، لأنّها مثله، ولأنه يحتاج للإيمان، وبدلاً من كونها مصدر شك عظيم لنفسها، ستصبح لغيرها، منبع إيمان أعظم.
الاستِلقاء: هي هواية محبّبة، من أجل الكتابة أو القراءة، أو تقليب الأفكار مع تغيير وضعيات الوسائد التي تملك منها أكثر مما يجب، لأنها تصلح للحضن، والاتكاء، ووضع الحاسوب، أو الكتابة، ورفع القدمين في حالات التّفكير المستعصي، أو البحث عن كلمة هي "الكلمة" التي لا أحد غيرها يلائم الفراغ، الذي يُعيب الجمل.
التّطرف: في الأناقة أو إهمالها، في الفرح والحزن، في الكلام والصّمت. قد تشعر بالإعجاب 
المفرط بشيء أو كتاب أو إنسان، وكره عميق لشخص تراه حقيراً، ويكون كذلك، لكن لم التّطرف؟ تعرف هذه الصّفة فيها، ولا تجد قدرة على دفعها، لأنّها تضفي دراما محبّبة لحياتها، تمنع عنها الملل. فالحياة المملّة أسوأ من كتاب مملّ.
النّق/ النّقد المزمن: تبدأ بنفسها، وتصل إلى أقصى الخلائق، والأشياء، والأشخاص، لولا إيمانها لانتقدت الأقدار نفسها، لأنّها لا تتفق معها، خصوصاً مع شعور خفيّ بأنها تنتصر للرّجال، بينما هي المؤمنة بالمساواة حداً يشبه حد السيف، لا شيء يشبهه.
التّناقض: تقول، وهي واثقة، في الرّجل ما لم يقله مالك في الخمر، وتؤمن بالحبّ بشكل عجائبي. مع من ستقع في الحب؟ مع رجل طبعاً، وليس مع كائن فضائي يُحتمل هبوطه. لكنها لا تريد هذا الرّجل الذي على الأرض، بل تحلمُ برجلٍ لا يشبه الرّجال، من أين لها به؟ لا تعرف، ولا تريد أن تعرف، ولا أن تخبرنا لنعرف معها نحن أيضاً.
الاعترافات: لم تعد تخفي شيئاً، أو تعتبره سراً، إلّا ما كان لمدة قصيرة، ثم يفقد أهميته ويصبح وقوداً لكتابتها. لا أسرار لها لأنّها لا تحتفظ بسر. عمّ ستكتب إذاً؟ والحديث عن هذه العادات، جزء من هذا الاندلاق السريع على الورق. أعطوها ورقاً، وستندلقُ حياتها عليه، مثل كوب قهوة على فستان أبيض.
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج