19 مارس 2024
طائف العراق وعابرات طوائفه
"يعتزم العبادي إطلاق كتلته الوطنية العابرة للطوائف". هذا ما أعلن عنه مكتب رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، قبيل تشكيل قائمته الانتخابية "النصر". ولم يمنعه عزمه من الإعلان عن التحالف مع قائمة "الفتح" التابعة للحشد الشعبي. قيل إنه تعرّض لضغط من قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني. لكن سرعان ما انسحبت "الفتح" تاركة أسئلة واحتمالات بشأن أسباب التحالف المفاجئ، وثم الانسحاب المفاجئ كذلك. وفي الحالتين، لم يتنازل العبادي عن جملة "عابرة للطوائف".
المعادلة الانتخابية، خصوصاً في الدورتين السابقتين فضلا عن هذه، زخرت بهذا الشعار. وظلت "العابرة" مجرد "شعار" لا قيمة له في التصويت، وثم في اصطفافات تشكيل السلطة. حتى ائتلاف "العراقية" بقيادة إياد علاوي في انتخابات 2010، والذي حصل على أغلبية الأصوات، وخسر رئاسة الوزراء، استناداً لتفسير المحكمة الاتحادية للكتلة الأكبر التي تسمّي رئيس الحكومة، خسر أيضاً عبور قائمته الطائفية بفعل عامليْ أن حلفاءه السنة تخلوا عنه بسرعة، وأن الطابع السني هيمن على قائمته، والذي بلغ حوالي 80%.
أما عن "عزم" العبادي إطلاق كتلة عابرة للطائفية، فمع أنه استقطب شخصياتٍ سنيةٍ كانت ضمن حكومته أو ضمن معسكره في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، من قبيل وزير الدفاع السابق، خالد العبيدي، والنائب عن محافظة نينوى، عبد الرحيم الشمري، وآخرين، إلا أن هذه الشخصيات ليست من الصف الأول، فهو حتى في مرحلة التحضيرات والنقاشات قبيل الائتلافات، لم يجلس مع قادة السنة الرئيسيين، لمعرفة من يستطيع أن يكون معه ممن لا يمكن أن يكون.
وعموماً، التحدي الذي يطرح على العبادي لمعرفة ما إذا كانت قائمته متنوعة فعلاً، لا يكون
في صلاح الدين أو نينوى أو الأنبار، بل في بغداد. وبجردةٍ سريعة للأسماء العشرة الأولى، سنجد اسماً واحداً غير معروف من "السنة العرب".
تعاني القوائم العابرة للطائفية باستمرار من منهجية أن الحلفاء من الطوائف الأخرى إما غير مهمين، أو أنهم مجرد واجهات مفيدة لوفرة الأصوات، أو لذر الرماد في العيون، وربما خداع الناخب. وهنا نعود إلى جذر المشكلة، وهي الناخب، المحكوم بالولاءين، المذهبي والقومي، مسبقاً. وحتى الاستثناءات التي حصلت في سنوات سابقة، مثل حصول علاوي على أصوات السنة، ومثال الآلوسي على أصوات شيعية، لم يكن الأمر لأن الناخب غير طائفي، بل لأنه تعامل مع الشخصيتين بعين المذهب نفسه، فهو رأى فيهما داعمين لطائفته أو لمشروعه المذهبي هو، وليس لطائفتيهما.
إذن، السبب الرئيس وراء استمرار الطائفية انتخابياً، عدا عن جذر المشكلة الكامن في أن الأغلبية الساحقة من الأحزاب المسيطرة مكوّنة على أسس طائفية وقومية ومناطقية، أن أغلب الناخبين العراقيين لم يعودوا قادرين على رؤية ساسةٍ يخالفونهم في المذهب والقومية. هم في أغلب الأحيان لا يرون سوى ساسة الجماعة، حتى لو كان الناخب كارهاً أو معارضاً أو رافضاً. الناخب العراقي نفسه طائفي انتخابياً، لا يستطيع اجتياز خط العبور الخاص بالمذهب والقومية إلى آخر.
وهنا يجب التمييز بين المواطن والناخب. الأول هو الفرد بمعزلٍ عن اختياراته السياسية، الفرد في حياته الاجتماعية والعملية، في زواجه وعمله وتعاملاته اليومية. أما الناخب فهو ذلك الفرد حين يختار سياسياً، حين يدلي بصوته. ولهذا، تولد اللحظة الطائفية في الانتخابات أكثر من أي وقت آخر. وهنا سنجد مثلاً أن هناك شيعة وسنة كثيرين متزوجين من طائفة أخرى، وشبكة علاقاتهم عابرة للفئوية، لكنهم في الاقتراع يدلون بصوتٍ فئويٍّ، يعتمد المذهب أو القومية. بل إن سياسيين لديهم شبكة علاقاته وزيجات عابرة، لكنهم خاضعون سياسياً للرؤية المذهبية أو القومية.
باتت المعادلة شبه ثابتة، والتنافس بين القوائم المذهبية والقومية يجري داخل الجماعة المذهبية والقومية نفسها. فالشيعي لا يخشى من منافسة سنية، والعكس صحيح. الكردي والعربي كذلك. الجميع يخشون المنافسين الداخليين، إذ لا يخاف نوري المالكي من أسامة النجيفي، ولا سليم الجبوري من مقتدى الصدر، ومسعود البرزاني لا يخشى حيدر العبادي، وعمار الحكيم لا منافسة بينه وبينه جماعة الطالباني. المنافسة تدور بين الصدر والمالكي والحكيم والعبادي والحشد. والحال كذلك مع النجيفي والجبوري وصالح المطلك ومحمد الكربولي، أيضا البرزاني والطالباني والتغيير. واذا ما حصل بعض التداخل، فهو بفعل المصادفة، أو بفعل وجود شخصياتٍ أوجدت ثغرة في جدار الثلاثي هذا، لكنها ظلت ثغرةً، وليس متوقعاً أن تكبر، بل إنها تصغر مع السنوات.
لذلك يمكن القول بسيادة المنهجية الانتخابية والسياسية اللبنانية على العراق. الفرق أن معادلة
بلاد الأرز مكتوبةٌ بموجب اتفاق الطائف، بينما "طائف" بلاد ما بين النهرين ثابت، خضع لاتجاهات الناخب نفسه. فوعي الناخبين اجتاز الحاجة لتدوين التقسيم الطائفي، لأنه بات ثابتاً من دون حاجة لاتفاقات مكتوبة. وأصبح الجميع الآن يقاتل خصومه من داخل المذهب نفسه.
هنا يبرز تحالف الصدريين مع الشيوعيين، الذي هو، في ظاهر الأمر، تحالف بين طرف شيعي إسلامي وآخر علماني عابر للطوائف. لكن الحقيقة أن هذا التحالف سيظل تحركا داخل الساحة الشيعية نفسها. لأن الشيوعيين وحلفاءهم الآخرين من المدنيين باتوا جزءاً من الصراع الشيعي الشيعي. وإذا ما قدر حصولهم على أصوات متنوعة، فهي، في الغالب، أصوات القواعد الشعبية الخاصة بهم، فليس متوقعاً مثلا لقائمة "مستمرون"، المؤلفة من هذا التحالف، أن يكون لها حضور معتدٌّ به في محافظات نينوى أو صلاح الدين أو الأنبار، بل وحتى في ديالى وكركوك المختلطتين. هذا ليس لأن الاثنين اتفقا على ذلك، بل لأن المعادلة العراقية باتت كذلك. وتغييرها بات صعباً بوجود الأحزاب نفسها.
باختصار، فرضت الأحزاب الدينية والقومية والطائفية إيقاعها على الشارع الانتخابي وصناديق الاقتراع، لضمان ديمومته. وبات العلمانيون غير الطائفيين أقلية، واضطر عدد غير قليل منهم للتحالف مع إٍسلاميين أو طائفيين غير متدينين. علاوي والشيوعي مثال حي على هذه الأقلية التي اضطرت للتحالف مع من لا يلتقون معهم إلا بالأهداف السياسية، ومن المرجح أنها أهداف مؤقتة. وبذا أصبح علاوي عملياً منافساً للسنة، والشيوعي منافساً للشيعة. هكذا أراد الناخب، والأدق هكذا صُنع وعيه.
المعادلة الانتخابية، خصوصاً في الدورتين السابقتين فضلا عن هذه، زخرت بهذا الشعار. وظلت "العابرة" مجرد "شعار" لا قيمة له في التصويت، وثم في اصطفافات تشكيل السلطة. حتى ائتلاف "العراقية" بقيادة إياد علاوي في انتخابات 2010، والذي حصل على أغلبية الأصوات، وخسر رئاسة الوزراء، استناداً لتفسير المحكمة الاتحادية للكتلة الأكبر التي تسمّي رئيس الحكومة، خسر أيضاً عبور قائمته الطائفية بفعل عامليْ أن حلفاءه السنة تخلوا عنه بسرعة، وأن الطابع السني هيمن على قائمته، والذي بلغ حوالي 80%.
أما عن "عزم" العبادي إطلاق كتلة عابرة للطائفية، فمع أنه استقطب شخصياتٍ سنيةٍ كانت ضمن حكومته أو ضمن معسكره في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، من قبيل وزير الدفاع السابق، خالد العبيدي، والنائب عن محافظة نينوى، عبد الرحيم الشمري، وآخرين، إلا أن هذه الشخصيات ليست من الصف الأول، فهو حتى في مرحلة التحضيرات والنقاشات قبيل الائتلافات، لم يجلس مع قادة السنة الرئيسيين، لمعرفة من يستطيع أن يكون معه ممن لا يمكن أن يكون.
وعموماً، التحدي الذي يطرح على العبادي لمعرفة ما إذا كانت قائمته متنوعة فعلاً، لا يكون
تعاني القوائم العابرة للطائفية باستمرار من منهجية أن الحلفاء من الطوائف الأخرى إما غير مهمين، أو أنهم مجرد واجهات مفيدة لوفرة الأصوات، أو لذر الرماد في العيون، وربما خداع الناخب. وهنا نعود إلى جذر المشكلة، وهي الناخب، المحكوم بالولاءين، المذهبي والقومي، مسبقاً. وحتى الاستثناءات التي حصلت في سنوات سابقة، مثل حصول علاوي على أصوات السنة، ومثال الآلوسي على أصوات شيعية، لم يكن الأمر لأن الناخب غير طائفي، بل لأنه تعامل مع الشخصيتين بعين المذهب نفسه، فهو رأى فيهما داعمين لطائفته أو لمشروعه المذهبي هو، وليس لطائفتيهما.
إذن، السبب الرئيس وراء استمرار الطائفية انتخابياً، عدا عن جذر المشكلة الكامن في أن الأغلبية الساحقة من الأحزاب المسيطرة مكوّنة على أسس طائفية وقومية ومناطقية، أن أغلب الناخبين العراقيين لم يعودوا قادرين على رؤية ساسةٍ يخالفونهم في المذهب والقومية. هم في أغلب الأحيان لا يرون سوى ساسة الجماعة، حتى لو كان الناخب كارهاً أو معارضاً أو رافضاً. الناخب العراقي نفسه طائفي انتخابياً، لا يستطيع اجتياز خط العبور الخاص بالمذهب والقومية إلى آخر.
وهنا يجب التمييز بين المواطن والناخب. الأول هو الفرد بمعزلٍ عن اختياراته السياسية، الفرد في حياته الاجتماعية والعملية، في زواجه وعمله وتعاملاته اليومية. أما الناخب فهو ذلك الفرد حين يختار سياسياً، حين يدلي بصوته. ولهذا، تولد اللحظة الطائفية في الانتخابات أكثر من أي وقت آخر. وهنا سنجد مثلاً أن هناك شيعة وسنة كثيرين متزوجين من طائفة أخرى، وشبكة علاقاتهم عابرة للفئوية، لكنهم في الاقتراع يدلون بصوتٍ فئويٍّ، يعتمد المذهب أو القومية. بل إن سياسيين لديهم شبكة علاقاته وزيجات عابرة، لكنهم خاضعون سياسياً للرؤية المذهبية أو القومية.
باتت المعادلة شبه ثابتة، والتنافس بين القوائم المذهبية والقومية يجري داخل الجماعة المذهبية والقومية نفسها. فالشيعي لا يخشى من منافسة سنية، والعكس صحيح. الكردي والعربي كذلك. الجميع يخشون المنافسين الداخليين، إذ لا يخاف نوري المالكي من أسامة النجيفي، ولا سليم الجبوري من مقتدى الصدر، ومسعود البرزاني لا يخشى حيدر العبادي، وعمار الحكيم لا منافسة بينه وبينه جماعة الطالباني. المنافسة تدور بين الصدر والمالكي والحكيم والعبادي والحشد. والحال كذلك مع النجيفي والجبوري وصالح المطلك ومحمد الكربولي، أيضا البرزاني والطالباني والتغيير. واذا ما حصل بعض التداخل، فهو بفعل المصادفة، أو بفعل وجود شخصياتٍ أوجدت ثغرة في جدار الثلاثي هذا، لكنها ظلت ثغرةً، وليس متوقعاً أن تكبر، بل إنها تصغر مع السنوات.
لذلك يمكن القول بسيادة المنهجية الانتخابية والسياسية اللبنانية على العراق. الفرق أن معادلة
هنا يبرز تحالف الصدريين مع الشيوعيين، الذي هو، في ظاهر الأمر، تحالف بين طرف شيعي إسلامي وآخر علماني عابر للطوائف. لكن الحقيقة أن هذا التحالف سيظل تحركا داخل الساحة الشيعية نفسها. لأن الشيوعيين وحلفاءهم الآخرين من المدنيين باتوا جزءاً من الصراع الشيعي الشيعي. وإذا ما قدر حصولهم على أصوات متنوعة، فهي، في الغالب، أصوات القواعد الشعبية الخاصة بهم، فليس متوقعاً مثلا لقائمة "مستمرون"، المؤلفة من هذا التحالف، أن يكون لها حضور معتدٌّ به في محافظات نينوى أو صلاح الدين أو الأنبار، بل وحتى في ديالى وكركوك المختلطتين. هذا ليس لأن الاثنين اتفقا على ذلك، بل لأن المعادلة العراقية باتت كذلك. وتغييرها بات صعباً بوجود الأحزاب نفسها.
باختصار، فرضت الأحزاب الدينية والقومية والطائفية إيقاعها على الشارع الانتخابي وصناديق الاقتراع، لضمان ديمومته. وبات العلمانيون غير الطائفيين أقلية، واضطر عدد غير قليل منهم للتحالف مع إٍسلاميين أو طائفيين غير متدينين. علاوي والشيوعي مثال حي على هذه الأقلية التي اضطرت للتحالف مع من لا يلتقون معهم إلا بالأهداف السياسية، ومن المرجح أنها أهداف مؤقتة. وبذا أصبح علاوي عملياً منافساً للسنة، والشيوعي منافساً للشيعة. هكذا أراد الناخب، والأدق هكذا صُنع وعيه.
مقالات أخرى
02 مارس 2024
19 فبراير 2024
05 فبراير 2024