08 نوفمبر 2024
ضحايا من الدرجة الثانية
خلط الاعتداء الذي راح ضحيته عشرات الأبرياء في مسجدين في مدينة جنوب نيوزيلندا الأوراق بشأن التمثلات السائدة عن الإرهاب، سيما فيما يرتبط بخطورة الاستمرار في استدعاء هذه التمثلات، وتوظيفها في التقاطبات الإقليمية والدولية، فلم يعد الأمر مجرد حوادث منفصلة، تقع هنا وهناك، تُحركها مشاعر الكراهية والتعصب ونبذ الآخر، بل صار مواجهةً تكاد تكون مفتوحة، يُراد لها أن تستمر وتستعر، مسنودةً بمقولاتٍ تمثل العلاقةُ بين الإسلام والإرهاب ملمَحها الرئيسي.
ولعل ما يدفع إلى هذا الاستنتاج ما حدث، على الواجهة الإعلامية، في الساعات القليلة التي أعقبت الهجوم الآثم. صحيح أن إداناتٍ دوليةً واسعةً توالت، وشجب قادة العالم المذبحةَ المروّعةَ، كما أصدر مجلس الأمن الدولي بيان إدانة، لكن ذلك كله لم ينتظم في تغطية إعلامية مهنية، كما الحال في الهجمات الإرهابية التي ينفذها مسلمون، حيث تحرص وسائل الإعلام الدولية الكبرى على قيادة الرأي العام العالمي في اتجاه ''منطقةٍ'' تشتبك فيها الهجمات المرتكبَةُ مع الخلفية الدينية والثقافية والإيديولوجية للجناة، لتُشكل عملا إرهابيا مكتمل الأركان.
لم تستدع هذه الوسائل الدلالات الثقافيةَ الكامنة خلف خطاب القاتل برينتون تارنت، وهو الخطاب الذي بدا مسنودا بنزوع عنصري ويميني متطرّف، تجلى فيما كتبه، على سلاحه، من كلمات ووقائع وتواريخ، حرِص على تأطيرها ضمن سياقٍ تاريخي، يحيل على بعض فصول المواجهة بين الغرب والإسلام. ولم تتم الإشارة إلى الواقعة باعتبارها تدخل ضمن الإرهاب المسيحي، بينما لا يتردّد الإعلام الدولي في توصيف العمليات التي ينفذها مسلمون بـ ''الإرهاب الإسلامي''. كما نكاد لا نعثر فيما تواتر من تعليقاتٍ مختلفةٍ على ما يُشدّد على شناعة الواقعة، باعتبارها استهدافا لدور العبادة التي يُفترض أنها تحظى بالاحترام والتبجيل في جميع الديانات والثقافات.
لم يكن هجوم نيوزيلندا أكثر من ''هجومٍ'' أو ''حادثِ إطلاق نار''، ولم يُوسم بالعمل الإرهابي الذي له الكثافة الرمزية والسياسية ذاتها التي تحيط بما يرتكبه مسلمون من جرائم مماثلة. ولعل ذلك ما يفسّر غياب الضحايا عن الإعلام الذي واكب الحدث، فلا نكاد نعرف عنهم شيئا، كأن الأمر يتعلق بضحايا من الدرجة الثانية، لا يستحقون ما يستحقه غيرهم من تغطية إعلامية واسعة.
ولم يتنادَ زعماء العالم ورموزه لتنظيم مسيرة حاشدة، يشجبون فيها الإرهاب الأعمى الذي حصد أرواح 50 ضحية، على غرار ''مسيرة باريس'' التي أعقبت الهجوم على صحيفة شارلي إيبدو قبل أربعة أعوام.
كان منسوب الاستنفار في المتابعة الإعلامية لهجوم نيوزيلندا ضعيفا، على الرغم من أن الجاني اجتهد كثيرا في إبراز ما يعتمل في نفسه المريضة من كراهيةٍ حيال الإسلام والمسلمين. ولعل تلك إحدى المفارقات الدالة في أداء الإعلام الدولي، والذي بقدر ما كان حريصا على التحكّم، إعلاميا، في تداعيات الواقعة، كان حريصا، كذلك، على بث المقطع الذي وثَّق به الجاني فعلته الوحشية، وكأن الأمر يتعلق بترويج (مقصود؟) لأفكار اليمين المتطرف في الغرب وطروحاته بشأن قضايا المهاجرين واللاجئين والأقليات التي تغذّي مشاعر الكراهية والعنصرية إزاء الآخر.
يتعلق الأمر بما يسميه هربرت شيللر في كتابه ''المتلاعبون بالعقول'' بالوعي المعلب الذي يتشكل من خلال تدبير الصور والمعلومات، وإعادة معالجتها وتوجيهها، في أفق صناعة رأيِ عامٍّ، منقادٍ فيما يُنتجه من مواقف وتمثلات. ومن ثمّة، تصبح مذبحة نيوزيلندا بالنسبة للرأي العام الغربي، في ضوء المعالجة التي تناولها بها الإعلام الدولي، ردَّ فعلٍ غير مقبول ومستهجناً، لكن، في الوقت نفسه، هناك مساحة صغيرة في اللاوعي الجماعي لهذا الرأي العام، تُفسح المجال لصناعة تَمثُّلٍ دالٍّ بشأن المذبحة، عنوانُه الأبرز تفهُّمها وتبريرُها على استحياء، بوضعها في سياقٍ يبدو فيه الضحايا (المسلمون) مسؤولين، بشكل أو بآخر، عما يلحق بهم من ضرر، بسبب عدم التسامح المتجذر في ثقافتهم، ورفضهم قيم الحضارة الغربية ومبادئها.
ختاما، يبدو أن الإرهاب يتجه إلى أن يصبح مثل بقعة زيتٍ يصعب تطويقها والتحكّم بها. واستمرارُ القوى الإقليمية والدولية في توظيفه، من دون رادع، في صراع النفوذ والإرادات والمصالح الكبرى، يؤشر على مواجهة ثقافية كبرى، يبدو الطرفان (الغرب والعالم الإسلامي) في غنىً عنها.
ولعل ما يدفع إلى هذا الاستنتاج ما حدث، على الواجهة الإعلامية، في الساعات القليلة التي أعقبت الهجوم الآثم. صحيح أن إداناتٍ دوليةً واسعةً توالت، وشجب قادة العالم المذبحةَ المروّعةَ، كما أصدر مجلس الأمن الدولي بيان إدانة، لكن ذلك كله لم ينتظم في تغطية إعلامية مهنية، كما الحال في الهجمات الإرهابية التي ينفذها مسلمون، حيث تحرص وسائل الإعلام الدولية الكبرى على قيادة الرأي العام العالمي في اتجاه ''منطقةٍ'' تشتبك فيها الهجمات المرتكبَةُ مع الخلفية الدينية والثقافية والإيديولوجية للجناة، لتُشكل عملا إرهابيا مكتمل الأركان.
لم تستدع هذه الوسائل الدلالات الثقافيةَ الكامنة خلف خطاب القاتل برينتون تارنت، وهو الخطاب الذي بدا مسنودا بنزوع عنصري ويميني متطرّف، تجلى فيما كتبه، على سلاحه، من كلمات ووقائع وتواريخ، حرِص على تأطيرها ضمن سياقٍ تاريخي، يحيل على بعض فصول المواجهة بين الغرب والإسلام. ولم تتم الإشارة إلى الواقعة باعتبارها تدخل ضمن الإرهاب المسيحي، بينما لا يتردّد الإعلام الدولي في توصيف العمليات التي ينفذها مسلمون بـ ''الإرهاب الإسلامي''. كما نكاد لا نعثر فيما تواتر من تعليقاتٍ مختلفةٍ على ما يُشدّد على شناعة الواقعة، باعتبارها استهدافا لدور العبادة التي يُفترض أنها تحظى بالاحترام والتبجيل في جميع الديانات والثقافات.
لم يكن هجوم نيوزيلندا أكثر من ''هجومٍ'' أو ''حادثِ إطلاق نار''، ولم يُوسم بالعمل الإرهابي الذي له الكثافة الرمزية والسياسية ذاتها التي تحيط بما يرتكبه مسلمون من جرائم مماثلة. ولعل ذلك ما يفسّر غياب الضحايا عن الإعلام الذي واكب الحدث، فلا نكاد نعرف عنهم شيئا، كأن الأمر يتعلق بضحايا من الدرجة الثانية، لا يستحقون ما يستحقه غيرهم من تغطية إعلامية واسعة.
ولم يتنادَ زعماء العالم ورموزه لتنظيم مسيرة حاشدة، يشجبون فيها الإرهاب الأعمى الذي حصد أرواح 50 ضحية، على غرار ''مسيرة باريس'' التي أعقبت الهجوم على صحيفة شارلي إيبدو قبل أربعة أعوام.
كان منسوب الاستنفار في المتابعة الإعلامية لهجوم نيوزيلندا ضعيفا، على الرغم من أن الجاني اجتهد كثيرا في إبراز ما يعتمل في نفسه المريضة من كراهيةٍ حيال الإسلام والمسلمين. ولعل تلك إحدى المفارقات الدالة في أداء الإعلام الدولي، والذي بقدر ما كان حريصا على التحكّم، إعلاميا، في تداعيات الواقعة، كان حريصا، كذلك، على بث المقطع الذي وثَّق به الجاني فعلته الوحشية، وكأن الأمر يتعلق بترويج (مقصود؟) لأفكار اليمين المتطرف في الغرب وطروحاته بشأن قضايا المهاجرين واللاجئين والأقليات التي تغذّي مشاعر الكراهية والعنصرية إزاء الآخر.
يتعلق الأمر بما يسميه هربرت شيللر في كتابه ''المتلاعبون بالعقول'' بالوعي المعلب الذي يتشكل من خلال تدبير الصور والمعلومات، وإعادة معالجتها وتوجيهها، في أفق صناعة رأيِ عامٍّ، منقادٍ فيما يُنتجه من مواقف وتمثلات. ومن ثمّة، تصبح مذبحة نيوزيلندا بالنسبة للرأي العام الغربي، في ضوء المعالجة التي تناولها بها الإعلام الدولي، ردَّ فعلٍ غير مقبول ومستهجناً، لكن، في الوقت نفسه، هناك مساحة صغيرة في اللاوعي الجماعي لهذا الرأي العام، تُفسح المجال لصناعة تَمثُّلٍ دالٍّ بشأن المذبحة، عنوانُه الأبرز تفهُّمها وتبريرُها على استحياء، بوضعها في سياقٍ يبدو فيه الضحايا (المسلمون) مسؤولين، بشكل أو بآخر، عما يلحق بهم من ضرر، بسبب عدم التسامح المتجذر في ثقافتهم، ورفضهم قيم الحضارة الغربية ومبادئها.
ختاما، يبدو أن الإرهاب يتجه إلى أن يصبح مثل بقعة زيتٍ يصعب تطويقها والتحكّم بها. واستمرارُ القوى الإقليمية والدولية في توظيفه، من دون رادع، في صراع النفوذ والإرادات والمصالح الكبرى، يؤشر على مواجهة ثقافية كبرى، يبدو الطرفان (الغرب والعالم الإسلامي) في غنىً عنها.