12 نوفمبر 2024
صورة إسرائيل الاستراتيجية في مرآتها الإقليمية
تستمد هذه المطالعة مادتها الأساسية من التقييم الاستراتيجي الإسرائيلي للعام 2017، الذي وضعه أحد أعمدة المؤسسة الأمنية في الدولة العبرية، الجنرال عاموس يدلين، وهو من يكتب فصلاً بهذا المعنى وهذا المضمون، في التقرير السنوي التقييمي الذي يعدّه قادة في المنظومة العسكرية المقرّرة للتوجيهات الكلية الموصى بها، والمرفوعة إلى المستوى السياسي، للأخذ بما ورد فيها، أو الاسترشاد بها على أقل تقدير، نعرضه هنا باختصار وانتقائية لا تخل بالجوهر.
وقد لا يعكس هذا التقييم الصادر أخيرا، بالضرورة، وجهة نظر مُجمع عليها من قادة الأذرع الأمنية الإسرائيلية، إلا أنه يقدم رؤية تقييمية لواحد من أبرز أبنائها، وهو جنرال عتيق، يعتد بقدرته على قراءة المشهد الإسرائيلي أولاً بأول، وصياغة مقاربة كاشفة لتفكير القيادة الإسرائيلية وتقديراتها وافتراضاتها المستقبلية، إزاء مجمل القضايا والمسائل والموضوعات، التي يجدر بالرأي العام العربي الاطلاع عليها من مصادرها، كونها ترى ما نراه نحن، ولكن من زاويةٍ مختلفة، وبذهنيةٍ مغايرةٍ للذهنية السائدة في أوساطنا السياسية والفكرية.
ولو أردنا اختصار هذا التقييم المطول نسبياً، بجملةٍ واحدة، لقلنا إنه يتضمن فكرةً جوهريةً موجزة، مفادها أن إسرائيل تتمتع الآن بما يسمى "الاستقرار الاستراتيجي الشامل" في المدى المنظور، كون هذا الاستقرار غير المشكوك فيه يستند، من جهة أولى، إلى قوة عسكرية متفوقة، ومستمد، من جهة ثانية، من تراجع تهديد الجيوش العربية النظامية التي واصلت عملية التقهقر والتلاشي التدريجي على مدى السنوات الخمس الماضية، لا سيما بعد تفكّك الجيش السوري، وصمود السلام مع كل من مصر والأردن، إن لم نقل إنه تعزّز أكثر.
ولا ينبع الاستقرار الاستراتيجي الشامل لإسرائيل من هذين المعطيين المهمين، المشار إليهما،
وإنما يتوطد أكثر فأكثر من عوامل استراتيجية أخرى أوسع نطاقاً، لعل في مقدمتها التخلص من التهديد النووي الإيراني الذي تأجل مدة تراوح بين عشرة أعوام إلى خمسة عشر عاماً، فضلاً عن احتدام الصراع السني مع دولة الولي الفقيه، واستمرار فاعلية الردع الإسرائيلي إزاء اللاعبين من غير الدول، بدليل استمرار حالة الهدوء التام مع كل من حزب الله وحركة حماس في الشمال والجنوب، على مدى السنوات القليلة الماضية.
إلى جانب هذه العوامل التي تشكل مكونات الوضع المحيط بإسرائيل، هناك عناصر أخرى أقل أهمية، إلا أنها تستكمل صورة الوضع الاستراتيجي الآمن، على نحوٍ لم تتمتع به إسرائيل، كيفاً وكماً، في العقود الماضية، منها، على سبيل المثال، تطورات الأسعار في سوق الطاقة على نحوٍ أدى إلى تحسن أوضاعها الاقتصادية، وكذلك التحسينات والتقنيات المستمرة في الجاهزية العسكرية، والاستخدامات المكثفة في التكنولوجيا الحربية، بما في ذلك حرب السايبر، وفوق ذلك إقامة علاقات متوازنة، أول مرة، مع كل من روسيا وأميركا معاً، وهما اللاعبان النافذان على الساحة الشرق أوسطية.
غير أن هذه الصورة التي تبدو عليها إسرائيل، في الوقت الراهن، لا تلغي حقيقة أنها تواجه عدة معضلاتٍ، لا ترقى أي منها إلى الدرجة المصيرية، إلا أنها تطرح نفسها تحديات يتعذر على إسرائيل الاستجابة لها، أو الاستمرار في التعايش معها إلى ما لا نهاية، في مقدمتها استمرار الجمود في عملية السلام مع الفلسطينيين، هذا الجمود الذي يخلق التوتر والاحتقان، وينذر بعواقب غير معلومة، ويأكل، في الوقت نفسه، من صورة إسرائيل الخارجية، ويدفع مكانتها نحو مزيد من التدهور، ويهدّد بنزع شرعيتها السياسية والأخلاقية.
ومع أن إسرائيل تتمتع بشبكة علاقات تحالفية عميقة ومتشعبة مع الولايات المتحدة، وبأخرى جيدة مع روسيا، إلا أن تراجع مكانة أميركا في الشرق الأوسط، وتهافت دورها في هذه المنطقة القابلة للاشتعال بسرعة، يضر بالفاعلية الإقليمية الإسرائيلية، ويحسم من حسابها الاستراتيجي. كما أن زيادة التوتر بين واشنطن وموسكو، لا سيما بعد التدخل الروسي في سورية، أمر من شأنه أن يُثقل على يد إسرائيل، ويضيّق هامش المناورة أمامها، فوق أنه يقيد حرية العمل الإسرائيلية شرق المتوسط، وهو ما يفضي إلى تقوية كل من إيران وحزب الله، فيما تبدو الدولة العظمى الوحيدة بدون حلفاء يعتد بهم في المنطقة العربية.
على الهوامش الأوسع لهذه الصورة الاستراتيجية المثالية التي تحققت بعض مكوناتها من غير
جهود إسرائيلية، صب التحالف الدولي ضد الإرهاب كل الحَب في طاحونة الدولة العبرية، فقد ضعف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى أبعد الحدود الممكنة، وتورّط حزب الله حتى عنقه في الحرب السورية، بل وبات ينزف بغزارةٍ، ويعاني من أزمة مالية، ومن عزلةٍ عربية، ومن ملاحقاتٍ دولية، فيما المنظمات العقائدية المتنافسة بعضها مع بعض على الأحقية والصواب والمشروعية منهمكةٌ في صراعات أيديولوجية تعمي أبصارها عن الحالة الإسرائيلية، بما في ذلك التنظيمات والفصائل الإسلامية المرابطة على مرمى حجر من الحدود (الإسرائيلية)، في الشمال مع سورية، وفي الجنوب مع سيناء المصرية.
في هذا التقرير الذي يخاطب الداخل الإسرائيلي أساساً، بمن فيهم صانعو القرارات وزعماء الأحزاب وقيادات الرأي العام، هناك أيضاً ما يسلط الضوء على مركّبات المحيط الاستراتيجي للدولة التي تحيا تحت حد سيفها، وهو ما أوجزناه بتصرفٍ في هذه العجالة. وهناك أيضاً ما يخص التحديات الداخلية التي تواجه الدولة والمجتمع الإسرائيليين، آثرت هذه المقالة عدم التطرق إليها، على الرغم من أهميتها الموضوعية. وفضلاً عن ذلك، احتوت مادة هذا التقييم الاستراتيجي على توصيات مرفوعة لمطبخ القرار الإسرائيلي، قد لا يكون من المفيد استعراضها.
وفي كل الحالات، تبقى هذه المقاربة الإسرائيلية، بما انطوت عليه من تشخيص بالغ الأهمية للأوضاع التي، شئنا أم أبينا، نحن جزء منها، إن لم نكن سبباً رئيساً في تشكيلها، مقاربة تستحق القراءة المتمعنة من جانب القادة والمسؤولين، إذا كانوا يقرأون، ومن طرف المفكرين والمحللين الاستراتيجيين وذوي الرأي المسموع، لعل في ذلك كله ما يساعد على فهم مكامن قوة العدو، وبواطن ضعف النظام العربي الآيل إلى مزيد من التفكك والانهيار والبؤس، هذا النظام الذي ألقى بظلاله السوداء الكثيفة على الحالة الفلسطينية بصورة مباشرة.
وقد لا يعكس هذا التقييم الصادر أخيرا، بالضرورة، وجهة نظر مُجمع عليها من قادة الأذرع الأمنية الإسرائيلية، إلا أنه يقدم رؤية تقييمية لواحد من أبرز أبنائها، وهو جنرال عتيق، يعتد بقدرته على قراءة المشهد الإسرائيلي أولاً بأول، وصياغة مقاربة كاشفة لتفكير القيادة الإسرائيلية وتقديراتها وافتراضاتها المستقبلية، إزاء مجمل القضايا والمسائل والموضوعات، التي يجدر بالرأي العام العربي الاطلاع عليها من مصادرها، كونها ترى ما نراه نحن، ولكن من زاويةٍ مختلفة، وبذهنيةٍ مغايرةٍ للذهنية السائدة في أوساطنا السياسية والفكرية.
ولو أردنا اختصار هذا التقييم المطول نسبياً، بجملةٍ واحدة، لقلنا إنه يتضمن فكرةً جوهريةً موجزة، مفادها أن إسرائيل تتمتع الآن بما يسمى "الاستقرار الاستراتيجي الشامل" في المدى المنظور، كون هذا الاستقرار غير المشكوك فيه يستند، من جهة أولى، إلى قوة عسكرية متفوقة، ومستمد، من جهة ثانية، من تراجع تهديد الجيوش العربية النظامية التي واصلت عملية التقهقر والتلاشي التدريجي على مدى السنوات الخمس الماضية، لا سيما بعد تفكّك الجيش السوري، وصمود السلام مع كل من مصر والأردن، إن لم نقل إنه تعزّز أكثر.
ولا ينبع الاستقرار الاستراتيجي الشامل لإسرائيل من هذين المعطيين المهمين، المشار إليهما،
إلى جانب هذه العوامل التي تشكل مكونات الوضع المحيط بإسرائيل، هناك عناصر أخرى أقل أهمية، إلا أنها تستكمل صورة الوضع الاستراتيجي الآمن، على نحوٍ لم تتمتع به إسرائيل، كيفاً وكماً، في العقود الماضية، منها، على سبيل المثال، تطورات الأسعار في سوق الطاقة على نحوٍ أدى إلى تحسن أوضاعها الاقتصادية، وكذلك التحسينات والتقنيات المستمرة في الجاهزية العسكرية، والاستخدامات المكثفة في التكنولوجيا الحربية، بما في ذلك حرب السايبر، وفوق ذلك إقامة علاقات متوازنة، أول مرة، مع كل من روسيا وأميركا معاً، وهما اللاعبان النافذان على الساحة الشرق أوسطية.
غير أن هذه الصورة التي تبدو عليها إسرائيل، في الوقت الراهن، لا تلغي حقيقة أنها تواجه عدة معضلاتٍ، لا ترقى أي منها إلى الدرجة المصيرية، إلا أنها تطرح نفسها تحديات يتعذر على إسرائيل الاستجابة لها، أو الاستمرار في التعايش معها إلى ما لا نهاية، في مقدمتها استمرار الجمود في عملية السلام مع الفلسطينيين، هذا الجمود الذي يخلق التوتر والاحتقان، وينذر بعواقب غير معلومة، ويأكل، في الوقت نفسه، من صورة إسرائيل الخارجية، ويدفع مكانتها نحو مزيد من التدهور، ويهدّد بنزع شرعيتها السياسية والأخلاقية.
ومع أن إسرائيل تتمتع بشبكة علاقات تحالفية عميقة ومتشعبة مع الولايات المتحدة، وبأخرى جيدة مع روسيا، إلا أن تراجع مكانة أميركا في الشرق الأوسط، وتهافت دورها في هذه المنطقة القابلة للاشتعال بسرعة، يضر بالفاعلية الإقليمية الإسرائيلية، ويحسم من حسابها الاستراتيجي. كما أن زيادة التوتر بين واشنطن وموسكو، لا سيما بعد التدخل الروسي في سورية، أمر من شأنه أن يُثقل على يد إسرائيل، ويضيّق هامش المناورة أمامها، فوق أنه يقيد حرية العمل الإسرائيلية شرق المتوسط، وهو ما يفضي إلى تقوية كل من إيران وحزب الله، فيما تبدو الدولة العظمى الوحيدة بدون حلفاء يعتد بهم في المنطقة العربية.
على الهوامش الأوسع لهذه الصورة الاستراتيجية المثالية التي تحققت بعض مكوناتها من غير
في هذا التقرير الذي يخاطب الداخل الإسرائيلي أساساً، بمن فيهم صانعو القرارات وزعماء الأحزاب وقيادات الرأي العام، هناك أيضاً ما يسلط الضوء على مركّبات المحيط الاستراتيجي للدولة التي تحيا تحت حد سيفها، وهو ما أوجزناه بتصرفٍ في هذه العجالة. وهناك أيضاً ما يخص التحديات الداخلية التي تواجه الدولة والمجتمع الإسرائيليين، آثرت هذه المقالة عدم التطرق إليها، على الرغم من أهميتها الموضوعية. وفضلاً عن ذلك، احتوت مادة هذا التقييم الاستراتيجي على توصيات مرفوعة لمطبخ القرار الإسرائيلي، قد لا يكون من المفيد استعراضها.
وفي كل الحالات، تبقى هذه المقاربة الإسرائيلية، بما انطوت عليه من تشخيص بالغ الأهمية للأوضاع التي، شئنا أم أبينا، نحن جزء منها، إن لم نكن سبباً رئيساً في تشكيلها، مقاربة تستحق القراءة المتمعنة من جانب القادة والمسؤولين، إذا كانوا يقرأون، ومن طرف المفكرين والمحللين الاستراتيجيين وذوي الرأي المسموع، لعل في ذلك كله ما يساعد على فهم مكامن قوة العدو، وبواطن ضعف النظام العربي الآيل إلى مزيد من التفكك والانهيار والبؤس، هذا النظام الذي ألقى بظلاله السوداء الكثيفة على الحالة الفلسطينية بصورة مباشرة.
دلالات
مقالات أخرى
05 نوفمبر 2024
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024