صورة أبي عبيدة.. كيف سمح الصحابي أن يُرسم

25 يناير 2015
المسلمون يواجهون الجيوش البيزنطية (Getty)
+ الخط -
ظلّ عنصر التصوير، أو الرسم، في الثقافة العربية الإسلامية مسألة إشكالية تراوح بين نواهي النصّ واحتياجات المجتمع، بفئاته المتنوّعة، طبقة الحكام والسلطات العليا، وفئة الناس العاديين على رأسهم الرسّامون وغيرهم. 
بقي التصوير مطروحاً كسؤال إشكالي لجهة استخدامه. لكنّ المؤكّد أنّ استخدامه كان حاضراً في التراث في جميع مراحله. فعلى خلاف ما كان شائعاً حول كون النصّ في الإسلام نصّاً محكماً، تجد أنّ الروايات والأحداث ومجريات الواقع الاجتماعي تثبت عكس ذلك تماماً. إنّ ما كان يطالع النصّ من تعقيدات مجتمعية، جعله أمام أكثر من خيار. لم يكن التشدُّد الخيار الوحيد، لا بل كانت "المرونة" حاضرة كخيار قويّ في التراث العربي الإسلامي.
يكفينا أن نطالع أخبار خلفاء المسلمين وحكّامهم لنتبيّن بعض المواقف المرنة التي احتكموا إليها إبّان توسُّع امبراطوريتهم. ثمّة طرائف ونوادر ترويها أمّهات الكتب والمصادر التاريخية. يأتي كتاب "فتوح الشام"، للواقدي، ضمن تلك الكتب التي أضفت على تراثنا نكهة مختلفة لجهة أخبار الفتوحات في عزّ تثوير النصّ، وشدّ عصب الدولة على أيدي الخلفاء آنذاك.
جاءت بعض الروايات عن استخدام التصوير لحلّ نزاعات كانت على وشك جرّ جيوش المسلمين إلى الحرب، نلمس فيها مرونة بعض الخلفاء تجاه نواهي النصّ وإكراهاته، يمكن أن نجد ضرورات الدولة تبيح ما لم يكن في حسبان النصّ.
لم تكن السلطات العليا في التراث العربي الإسلامي بمنأى عن مجريات الواقع وتعقيداته. لا بل كانت تواكب تفاصيل الاجتماع الإسلامي في المركز وفي الأطراف. كانت تعالج كلّ مستجدّ ناتج عن حراك الفتوحات. بدت المواكبة هذه لمجريات الحياة اليومية حاضرة على كافة المستويات، بحيث تجد الفقه الإسلامي يستجيب لوقائع المضمار الاجتماعي ومستجدّاته على الدوام. تأتي روايات الواقدي في فتوح الشام لتؤكّد ما أسلفنا الكلام حوله من أنّ التصوير كان حاضراً في حوادث تاريخية. يتبيّن أنّ استخدام التصوير كان بمثابة "ضربة مُعلّم" في بعض الأحيان.
يروي الواقدي عن قرية قنسرين، القريبة من حمص، والتي كانت تقع ضمن نطاق حكم الروم عام 649 م، أنّها كانت في عهدة أحد بطاركة الملك هِرَقْل، وكان اسمه لوقا. في ذلك العام، وصلت جيوش المسلمين إلى حدود تلك القرية بعد أن قادها أبو عبيدة بن الجرّاح عن طريق البقاع واللبوة... عرض عليها المسلمون آنذاك الصلح والأمان. وصل الخبر لأهالي قنسرين فاتخذوا قراراً بمصالحة المسلمين لسنة كاملة، بينما توافيهم جيوش هرقل وتساندهم، فيكونون بذلك قد حفظوا أموالهم ومصالحهم. بعث لوقا أحد قساوسته، واسمه اصطخر، وقد عُرف بفصاحة لسانه، إلى أبي عبيدة الجرّاح. حمل كتاباً ليعقد معه الصلح. اتّفق اصطخر مع قائد فتوحات المسلمين على أن يجعل لحدود قنسرين علامةً تفصل بين أراضي الروم وأراضي المسلمين، بحيث لا يتجاوز أحد تلك العلامة.
بعد جولة من النقاش بين مبعوث لوقا وأبي عبيدة عامر بن الجرّاح، تولّى اصطخر مسألة ترسيم الحدود. فعمد اصطخر مع جنوده إلى صنع عمود كبير وتشكيل مجسّم على صورة الملك هرقل، بحيث إذا رآه الفرسان المسلمون لا يتجاوزون حدود البلدة. سُوّيت المسألة وعمّم أبو عبيدة على الجميع حظر تجاوز العلامة الفاصلة بين أرضهم وقنسرين والتقيّد بما أُبرمَ من اتفاق مع الروم. هكذا أصبحت صورة هرقل على العمود حدوداً لقنسرين. فصلت الصورة ثقافتين ودينين. صورة تشبه فتيل الفتنة. وبعد فترة وجيزة من الزمن، كانت خيل المسلمين تضرب غاراتها إلى أقصى بلاد حلب والعمق وإنطاكية. كانت تجوب أصقاعاً على حدود قنسرين المحيّدة باتفاق الصلح. كانت الجيوش المسلمة تغير بخيولها يومياً وتدور حول صورة هرقل ثم تعود أدراجها. كانوا يعلِّمون جيادهم تقنيات الحرب آنذاك، تقنيات الكرّ والفرّ. وفي أحد أيام التدريبات، فقأ فارس من شدّة حماسته، ويُدعى أبو جندلة، عين هرقل بقناته الحديدية، على مرأى من جنود الروم الذين يحرسون العمود وحدود مملكتهم. هرع الجنود إلى بطركهم لوقا ليخبروه بما حصل عند الحدود، فغضب غضباً شديداً. استدعى لوقا اصطخر على وجه السرعة وأعطاه صليباً من الذهب، وجهّز له ألف فارسٍ بعتادهم الحربي، وأمره بالذهاب إلى أمير العرب ليقول له: "لقد غدرتم بنا ولم توفوا بذمامكم". جهّز اصطخر موكبه وسار ليقابل أبي عبيدة الجرّاح ويبلغه بما جرى عند حدود بلدتهم. استقبل أبو عبيدة اصطخر واستمع لشكواه حول نكث العهود بينهم والغدر بالصلح. نادى أبو عبيدة على قومه واستوضح مجريات الحادث هذا، وسأل عمّن فعل ذلك بصورة هرقل. أجابوه بأنّ أبو جندلة فعلها دون أن يتعمّد ذلك. لم يقتنع اصطخر بما سمعه من تبرير، حتى قال لأبي عبيدة: "لن نرضى إلا حين تُفقأ عين حاكمكم". غضب المسلمون لسماع ذلك واهتاجوا وشحذوا سيوفهم لقتال اصطخر، حتى تدخّل أبو عبيدة وهدّأ من روع قومه بحنكةِ القائد.
خرج أبو عبيدة بحلٍ فيه الكثير من الحكمة لتفادي نزاع على وشك الوقوع، فاقترح أن تُرسم له صورة مقابل صورة هرقل. فصوّروا أبي عبيدة على عمود وجعلوا له عينين من زجاج حتى يأتي فارس من الروم حنقاً فيفقأ عين الصورة. تمّ حل النزاع بالتغاضي عن إكراهات النصّ آنذاك. النصّ الناهي عن التصوير، العين بالعين، والصورة بالصورة... والنزاع تبدّد. عاد اصطخر إلى لوقا راضياً بمعادلة أبي عبيدة. تلك المعادلة التي تبيح بعض ما نهى عنه النص لمصلحة طارئة.
لا يتوانى التراث بأخباره التاريخية عن مطالعتنا بحوادث كثيرة تفيد في معرفة سيرة الممالك وحكامها. حوادث تفيدنا بمعرفة أحوال النصوص والنفوس. حوادث تاريخية تُطلعنا على "التدبير" الذي يتخطّى النصوص ويسير باتجاه الواقع المعيوش ومجرياته.

المساهمون