"موت" ألماني: مُعاينة احتضار تحتاج إلى تأهيل سينمائي

19 يوليو 2024
"موت": أفضل سيناريو لشبه دراما تلفزيونية (الموقع الإلكتروني لـ"برليناله 74")
+ الخط -
اظهر الملخص
- **استكشاف الموت في الإطار الأسري**: فيلم "موت" (2024) للمخرج ماتياس غلاسنر يتناول موضوع الموت من خلال محنة أشخاص يقترب منهم الموت، ويثير أسئلة حول الشعور بالذنب والتعامل مع الموت بطرق مختلفة.

- **قصص الشخصيات الرئيسية**: الفيلم يبدأ بقصة الوالدين العجوزين ليسي وغيرد، والابن توم الملحن، والابنة إلين المدمنة على الكحول، حيث تتشابك قصصهم لتخلق مواقف درامية تتناول مفاهيم الأسرة والتضامن والحب والموت.

- **أهمية إنسانية رغم المشاكل الفنية**: رغم بعض المشاكل الفنية، يحمل الفيلم أهمية إنسانية كبيرة، ويذكر بأهمية الحب والتسامح والتفكير الجدي في الموت، مقدماً نظرة صادقة وجريئة على الحياة والموت.

 

حاول الألماني ماتياس غلاسنر، في "موت" (2024)، بعد أكثر من عقد على آخر روائي طويل له (2012)، "النعمة (Die Gnade)"، مُقاربة الموت في الإطار الأسري، برصد حثيث وصادق من زوايا مختلفة لمحنة أشخاص يقترب منهم الموت، ويحيطهم احتضار أقرب البشر إليهم. يتفاعلون مع الأمر بطرق متنوّعة، تفاجِئ تارةً، وأحياناً تصدم.

هذا يُثير أسئلة كثيرة، أبرزها عن الشعور بالذنب لعدم القدرة على التعامل مع الأمر، وأهمّها إنْ كان هناك شعور بالذنب أصلاً، وهل في تجنّب الموت، أو عدم الاقتراب الشديد منه، أو التعامل معه بخفّة، ما يُدين المرء أخلاقياً واجتماعياً وإنسانياً، أولاً؟

يُثير "موت" أسئلة أكثر، طرحها السيناريو الأصلي الذي كتبه غلاسنر للسينما مباشرة، ونال عنه جائزة "الدب الفضي لأفضل سيناريو" في الدورة الـ 74 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2024) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)". ورغم قوّة الفكرة المطروحة فيه، وتركيبة الشخصيات، إلى مواقف درامية أصيلة كثيراً، احتاجت الدراما إجمالاً إلى تعميق أكثر، وتكثيف شديد، وبعض الحذف. إذْ يتجلّى فيه أنّ هناك مخرجاً بارعاً في اختيار الشخصيات، وتقديم فيلمٍ جذّاب، وموضوع أخّاذ رغم قتامته. لكنْ، كان يُفترض به أنْ يضطلع بدوره، ويكون أكثر صرامة مع نفسه عند التصدّي لتنفيذ السيناريو.

بصرف النظر عن المشاكل الدرامية للسيناريو، وافتقار الفيلم إلى سحر السينما، واقترابه أكثر من الدراما التلفزيونية؛ ورغم مدّته البالغة 183 دقيقة، فإنّه سهل التلقّي، ولا يُشْعِر بملل أو ضجر. أحياناً، يبعث على التسلية، وربما المتعة.

من عنوانه (موت)، وطبيعته الدرامية، يبدو بالغ الكآبة والحزن والجدّية. لكنْ، يُعوَّض عن هذا بمواقف ومَشَاهد كوميدية متفرّقة، وإنْ كانت الكوميديا سوداء بطعم الموت، ومُحزنة أكثر منها مُفرحة. بعيداً عن الفكرة الجوهرية، المتمثّلة بالموت أو الاحتضار، الحاضرة في صلبه، هناك شخصيات حقيقية عميقة وأصيلة، مرسومة بجهد لافت للانتباه، يُمكن تأويل وتحليل وتفسير سلوكياتها وأفكارها بمعزل عن الحبكة والفكرة الرئيسية، والفيلم برمّته. فيه، يُنسَج أكبر قدر ممكن من الخيوط الدرامية الجامعة هذه الشخصيات، لخلق حالات ومواقف ودراما، تدفع إلى تأمّل علاقة الشخصيات وردود فعلها إزاء مفاهيم الأسرة والتضامن والحب والموت، وعشق ـ كره الحياة. وقبل هذا، ضرورة مُجابهة أمور وثيقة جداً بالموت والولادة، وتَعيّن اتّخاذ قرارات تجاهها، أو عدم اتّخاذ أي قرار.

يبدأ "موت (Sterben)" ـ المعروض في برنامج "آفاق"، في الدورة الـ 58 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2024) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي" ـ بالوالدين العجوزين لونيز، ليسي (كورينا حرفوش) وغيرد (هانز أوي باور). ليسي تحتضر بسبب سرطان الرحم، وتُعاني مشكلات صحية أخرى، منها التبوّل اللاإرادي وصعوبة الرؤية بسبب السكّري. غيرد يحتضر، ومُصاب بـ"باركنسون"، ومشاكل بسبب "ألزهايمر". يُحدّق غلاسنر في متاعب الشيخوخة وسكرات الموت مليّاً، ويُثير السخرية بجرأة وبرود. فليسي، في البداية، تجلس على الأرض، وتبكي كالأطفال بعد أنْ لوّثت نفسها بالبول والغائط. بينما يتجوّل غيرد عارياً في الخارج، أمام الجيران، في فعلٍ يتكرّر، ولا يُمكن إيقافه. طريقة تصوير الحالة تُجسّد العبثية القائمة، وتُبرز جليّاً كيف أنّه لا يمكن لأحدهما مُساعدة الآخر. الابن والابنة في انشغال مُتواصل بحياتهما اللاهثة، ويتعذّر عليهما المُشاركة دائماً. ما يُؤدّي إلى تأزّم الأمور، دخول ليسي إلى المستشفى إثر أزمة قلبية، وما يترتب عليه من نقل غيرد إلى مُنشأة رعاية صحية.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

ثنائية الموت والحياة حاضرة أيضاً. تتّصل ليسي بتوم (لارس إيدنغر)، ابنها المُلحن وقائد الأوركسترا، فيعتذر عن عدم الحضور للمساعدة، لانشغاله مع شريكته السابقة ليف (آنا بيديركي)، التي أنجبت طفلاً للتوّ. توم ليس الأب البيولوجي، لكنّ ليف في خلافٍ مع والد الطفل، وتُريد توم إلى جانبها. هذا أحد المواقف الحياتية العديدة، المُلتبسة والغريبة، التي تجعل الفيلم فعّالاً للغاية. خصوصاً، عندما يحاول توم، في الفصل الثاني، الموازنة بين عمله وتلبية مسؤولياته تجاه والديه، وتجاه الطفل الذي ترغب حبيبته السابقة في أن يُربّيه ويعتني به، بدلاً من والده البيولوجي الأخرق. إضافة إلى أنّ حياته، النفسية والعاطفية والاجتماعية والجنسية، مُرتبكة، فهو لا يزال يحبّ ليف، ومرتبط بعلاقة جنسية، شبه عاطفية، مع مُساعِدَته في الفرقة، ويستعدّ لتقديم سمفونية جديدة، تستغرق وقته كلّه.

صديقه برنارد (روبرت غْفيسدك)، مُؤلّف سمفونية "موت"، يعاني عدم اتّزان نفسي، واكتئاباً حادّاً، ورغبة جارفة في الانتحار. يمارس أحياناً العنف ضد صديقته وتوم. قبل كلّ شيء، لا يُعجبه أداء العازفين لمقطوعته، ولا قيادة توم لها، والمُوسيقيون لا يفهمون الفروق الدقيقة في مقطوعته. محادثاتهم معه ومع توم تُؤدّي إلى نقاشات عن الموت، وطرق جديدة للتعبير والأداء، وتتطرّق إلى مناقشة جادة وعميقة عن الفنّ وماهيته وغرضه، خصوصاً الفنّ الحقيقي الأصيل، في مُقابل الفنّ الزائف والهابط.

في فصل آخر، تظهر الابنة الشابة إلين (ليليث ستانغنبرغ)، طبيبة أسنان مُساعِدة، مُتهوّرة وتحبّ الغناء. مرتبطة بعلاقة مع صاحب عملها، الطبيب سيباستيان (رونالد زهرفيلد). في أول ظهور لها كانت، لسبب غير مفهوم حتّى بالنسبة إليها، في فندق في "ريغا"، عاصمة لاتفيا. كيف وصلت إلى هناك؟ تدريجياً، نكتشف إدمانها الكحول، وحياتها الفوضوية المجنونة، التي تخلق غالباً بعض الكوميديا، وتؤكّد التباين السافر مع هدوء ورجاحة شقيقها المُتّزن. في مقابل العلاقة الجليدية، المُرتبكة والمُعقّدة، بين توم ووالديه، لم تكن العلاقة واضحة أبداً بين إلين ووالديها. لعلّ سبب ذلك أنّها تعيش في هامبورغ، على عكس توم الذي يعيش قريباً منهما في برلين. مع الوفاة الوشيكة لليسي، والتخبّط الجليّ لتوم بين النجاح والفشل، عاطفياً ومهنياً وأبوياً، وخطط برنارد للانتحار بعد وقت قصير من عزف مقطوعته الأخيرة، وإصرار إلين على الانتقام من نفسها والانصياع لحياة خالية إلا من السُّكر، يتهيّأ الجميع لاحتضار وشيك، ربما من دون أنْ يدروا بذلك.

فنياً، هناك مشاكل مُزعجة في "موت": ما الوجاهة في تقسيمه إلى خمسة فصول؟ لماذا خبت البداية القوية وضعفت؟ لماذا لا ينسجم الفصل الخاص بإلين وبقية الفيلم؟ هناك أيضاً أحداث طويلة مُقحمة وغير مُبرّرة، وسخيفة أحياناً: مواجهة توم ووالدته، واعترافات مُزعجة وقاسية من أمّ لابنها، تشرح فيها سبب كراهيتها له كطفل، إلخ. هناك مشهد لا يُعرف تحديداً هل أراده غلاسنر كوميديا سوداء، أو تراجيديا سيكولوجية صرفة، أو ماذا. المُهم أنّه مزعج كثيراً لانتفاء مصداقيته، وضعف الأداء وتكلّفه. إضافة إلى بداية السرد من وجهة نظر، والانتقال في الفصل التالي إلى السرد من وجهة نظر أخرى، ثم تخلّيه عن هذا مع تقدّم السياق.

بتجاوز الأمور المُزعجة، لـ"موت" قدرٌ كبير من الأهمية، إنسانياً على الأقلّ، إذْ تُذكِّر أفلامٌ كهذه بأنْ نُحبّ، ونلتمس الأعذار، ونُسامح، إن أمكن هذا. وطبعاً، التفكير في الموت وآلياته، وعدم خشيته، والترتيب له، والتعامل معه بجدّية، ومن قرب، سواء مَسَّنا مُباشرة، أو مَسّ أحباباً لنا ومُقرّبين منّا.

المساهمون