نعم يحقّ للشّعراء ما لا يحقّ لغيرهم. فهم من يهيمون ليقطفوا نرجس الكلام من حوافّ الوديان السّحيقة، يحطبون الأشجار العالية بمناجل الغيب، ويقطبون أفواه جحيم العاطفة بخيوط من ضوء بكر.
نعم يحقّ للشّعراء ما لا يحق لغيرهم، يدوزنون الصّباحات على مقامات كمنجاتهم، يجدولون انصياع السّواقي لمجاري نهر الكلام، فيكسوهم السَعف وهم يرفعون قامات النخيل.
يقولون بالحلول، والانشداه، ويبذخون وهم ينخلبون في جسد الموت ويخرجون منه أكثر رقّة. يراودون شعاعاً على ظلّه، ويجلخون سواطير الاستعارات ليمزّقوا لحم السّماء، ويعلّقون الليل من عرقوبه، يبيعونه، خالياً من العظم، والدّهن، والزّنخة، صافياً إلا من الكوابيس والنبوءات.
نعم يحقّ للشّعراء ما لا يحق لغيرهم حين يتألّم التّراب، يرشّون عليه دعسات حبيباتهم، يطببّون الجراح بالفواح، ويعالجون آلامه بندف القبلات على أديم الأرض، وحين ينسدر البحر، يحرسون الأمواج من عته الشّواطئ. نعم يحقّ للشّعراء هذا وأكثر. ولكن أيّ شاعر من يحق له ذلك؟
هو الشاعر الذي حضر يوماً مجلس هولاكو وقد تحزّم بحزام لامع، وارتدى أبهى حلّة في ذلك العصر وقد أخذته سكرة السلطة، وبمزاج رائق، طلب من الشّعراء والحضور أن يثمنّوه ، كم يساوى هولاكو لديكم؟ جادت القرائح تُقدّم ذبائح الكلام، تهدر حشمة الشّعر، وتهتك كرامة اللغة.
ولما وصل الحديث إلى الشّاعر الشّاعر؛ قال: أشتريك بعشر فضيات. ضحك السّفاح وردّ: عشر فضيات لا تساوي ثمن بكلة حزامي هذا! ردّ الشّاعر: إنما أنا أشتري فيك بكلة حزامك، أما أنت فلا تساوي شيئاً.
فقط لمن يستطيع أن يجهر لحظة الحقّ، لولي من أولياء الغباء والموت والأمر: أنت لا تساوي شيئاً؛ هو من يستطيع أن يقول أكثر من الجميع، الحقيقة والحقّ دون الخوف من الاستحقاق. في سورية، صمت جلّ الشّعراء، لقد صمت الشعر، إنه الصمت الذي تفجّر في مملكة السكون والأقبية ليقال دفعةً واحدة.
أما من ظنّوا أنهم تحدثوا، لقد نثروا الهراء، الهراء إيّاه المنثور بكثرة على ضفاف المذبحة، والتبرير الخطير للسفاح بحجة حرية مفصّلة على مقاس مساطرهم، وأن الرعب من القادم للتحرير أكبر من وائد الحرية، وأن القطيع يبيع الأوهام ولا ينتج سوى الكوابيس، وأن المساجد أوكار لا تخرج منها قيم الحرية، وأن دكتاتوراً بربطة عنق أفضل من حر بعمامة.. إلخ.
أه منك أيتها البلاد ومن بلادة الشعراء. إنها البلاغة، يحترس الشعراء منها ومن فخ الملل والمثل والأمل. يشعلون النار، مذ استهدوا إلى سرِّ الآلهة، وسرق لهم برومثيوس النار من القمة، وهم يحطبون الأشجار ليتخلّصوا من برودة العقل، وهم يُفَخِّخون غيمةً عابرة لتمطرَ نبيذاً وزرافاتٍ وأزراراً من قمصانَ السماء مفتوحة. وهم يلتقطون الزفير الخارج من تجويف ثقب في القلب، ويعجنوه ليصنعوا منه سُبْحاتٍ يعدّون بها أسماءَ الشاعر الحسنى.
اقرأ أيضاً: غياب رجال القدر