تبرز أسباب متشابكة يختلط فيها الذاتي بالموضوعي والإيديولوجي بالاقتصادي. السبب الأول ذاتي صرف، تمثّل في الاستراتيجية الذكية التي انتهجتها لوبان في تغيير صورة الحزب وتجديده بالموازاة مع مجهود شخصي جبّار تمثّل في قيامها بالتخلّص من أبيها جون ماري لوبان وطرده هو ورجاله من قيادة الحزب. وبطرد الأب قطعت مارين شوطاً كبيراً في عملية الجراحة التجميلية السياسية التي أخضعت لها الحزب المتطرف منذ تسلّمها مقاليد رئاسته عام 2011 بهدف جعله حزباً عادياً وحديثاً قادراً على القيام بأدوار طليعية في المشهد السياسي الفرنسي. ذلك أن الأب بتاريخه المثقل بالمواقف العنصرية والمعادية للسامية، تحوّل منذ سنوات، في نظر ابنته والجيل الجديد من كوادر الحزب، إلى عائق أساسي لتطوير الحزب والتخلص من صورة الحزب المعادي لليهود اللصيقة به منذ إنشائه. كما أن مارين لوبان أكسبت الحزب شرعية جمهورية تخوّله الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلتين.
وعلى الرغم من أن إقصاء المؤسس التاريخي للحزب، عرّض مارين لوبان للقطيعة مع جزء من قاعدة "المناضلين"، فإنها فضّلت خسارة هؤلاء مقابل ربح واستقطاب قاعدة جماهيرية جديدة من الناخبين نساءً وشباباً من أولئك الفرنسيين الذين يشعرون بالخذلان من اليسار الاشتراكي واليمين التقليدي. ورغم الخسائر التي لحقت بسمعة الحزب بعد طرد الأب المؤسس، فإنها ظلّت في الواقع خسارات مؤقتة وجانبية، لأن الهدف الأساسي تحقق ونجحت مارين لوبان في تغيير جلد التمساح وتأسيس دينامية جديدة وسّعت من قاعدته الانتخابية ومنحته شرعية الصناديق.
سبب آخر يقف وراء الصعود المدوّي لـ"الجبهة الوطنية"، يتمثّل في أداء اليمين المحافظ والتقليدي الذي يتزعمه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي. والواقع أن أفكار اليمين المتطرف تجد صداها في التوجّه الإيديولوجي لليمين الجمهوري، فمنذ حوالي عقد من الزمن دخلت قيادات اليمين الجمهوري في منافسة شرسة مع اليمين المتطرف، أساسها المغالاة والمزايدة في تبني الأفكار اليمينية المتطرفة، ما جعل الحدود الإيديولوجية تتهاوى بينهما، وجعل الناخب التقليدي لليمين لا يرى فارقاً جوهرياً بين ما يطرحه ساركوزي وما تتبناه لوبان بخصوص قضايا جوهرية، مثل الهجرة والهوية الوطنية والوحدة الأوروبية.
والأسبوع الماضي تطرّق ساركوزي لهذه القضايا دفعة واحدة ودافع عن الجذور الكاثوليكية للمجتمع الفرنسي المهددة بـ"الزحف الإسلامي"، ووعد بالخروج من اتفاقية "شينغن" الأوروبية والعودة إلى الحدود الوطنية وفرض قيود استثنائية على الهجرة. وبالإضافة إلى ساركوزي، ذهبت شخصيات يمينية أخرى، مثل كريستيان إيستروزي، عمدة مدينة نيس ومرشح منطقة باكا الجنوبية، أبعد من "الجبهة الوطنية" في التهجّم على الإسلام والمسلمين والتنديد بـ"احتلال العرب لفرنسا" والوعد بقطع المساعدات الاجتماعية عن المهاجرين.
غير أن هذه المزايدات على اليمين المتطرف، صبّت في النهاية في مصلحة هذا الأخير وأوصلت اليمين الجمهوري إلى طريق مسدود. لأن ناخب اليمين المتطرف ليس "حيواناً سياسياً" تسهل استمالته كما يحلو للبعض أن يتصور. فهذا الناخب مسكون بقرف كبير تجاه النخبة السياسية، وهو يضع اليمين الجمهوري في الكفّة نفسها مع اليسار الاشتراكي. كما أن تقمّص الأفكار حتى أكثرها تطرفاً لا ينفع لوحده، لأن هؤلاء الناخبين يرغبون في نخبة سياسية جديدة ورجال ونساء مغايرين يجسّدون هذه الأفكار.
اقرأ أيضاً: فرنسا: اليمين المتطرّف يُعبّد طريق رئاسيات 2017
أما اليسار الاشتراكي، فهو أيضاً يتحمّل قسطاً من المسؤولية في صعود اليمين المتطرف ولو بشكل غير مباشر، على الرغم من أنه منذ بداية الثمانينات يقدّم نفسه كسد منيع ضد أفكار اليمين المتطرف. ولا شك أن فشله منذ عهد الرئيس الراحل فرانسوا ميتران في محاربة ظاهرة البطالة، كان له دور أساسي في خلق مناخ ملائم للأفكار اليمينية المتطرفة. وهذا ما استثمره أخيراً حزب "الجبهة الوطنية" الذي ركّز في حملته الانتخابية الأخيرة على الأداء الحكومي الاشتراكي الباهت في مجال محاربة البطالة، التي حطّمت أرقاماً قياسية في عهد الرئيس الحالي فرانسوا هولاند، على الرغم من أن هذا الأخير قطع وعداً على نفسه علناً بأنه لن يترشح إلى الانتخابات الرئاسية في العام 2017 في حال لم ينجح في تخفيف حدة ظاهرة البطالة.
كما أن الانزلاق الإيديولوجي لليسار الاشتراكي في اتجاه الأفكار الليبرالية اليمينية، خلق بلبلة كبيرة في صفوف الناخبين والمتعاطفين مع اليسار، الذين صاروا لا يرون فرقاً بين أداء الحكومة الاشتراكية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي وبين الحكومات اليمينية. واستفحل هذا الانزلاق في اتجاه الأفكار الليبرالية مع تعيين هولاند لرئيس الوزراء مانويل فالس، زعيم التيار الليبرالي داخل الحزب الاشتراكي، وأيضاً وزير الاقتصاد الشاب إيمانويل ماكرون، الذي رسم للحكومة الاشتراكية سياسة اقتصادية لم يكن يحلم بها حتى اليمين الجمهوري نفسه. وأثّرت هذه السياسة الحكومية على المتعاطفين مع اليسار الاشتراكي وجعلتهم يهجرون مكاتب الاقتراع، لأن واحداً من الأسباب الأساسية للاختراق التاريخي الذي حققه حزب "الجبهة الوطنية" في الانتخابات الأخيرة يكمن في استفحال ظاهرة العزوف الانتخابي في أوساط الشرائح الاجتماعية التي تصوّت عادة للحزب الاشتراكي في الاستحقاقات الانتخابية المحلية والوطنية، مقابل تعبئة قوية في صفوف المتعاطفين مع اليمين بشقيه الجمهوري والمتطرف.
بقية الأسباب الأخرى التي تفسّر الصعود المدوي لليمين المتطرف تبدو بديهية لكونها طازجة وجديدة. فهناك أزمة المهاجرين والتدفّق الهائل للاجئين في الآونة الأخيرة على بلدان الاتحاد الأوروبي، وأزمة اللاجئين في منطقة كاليه على الحدود مع بريطانيا، التي صبّت في صالح الطروحات اليمينية المتطرفة وأجّجت خوف الفرنسيين من الأجانب.
أيضاً استفحال الهوّة الاجتماعية والفكرية بين الجاليات العربية والإسلامية، وبقية الفرنسيين. أما النقطة التي أفاضت الكأس فهي إقدام مجموعة من الشبان الفرنسيين من أصول عربية على ارتكاب أضخم وأخطر هجوم إرهابي، وقتلهم بدم بارد خلال اعتداءات يوم الجمعة الأسود في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي 130 فرنسياً في باريس، في ظل أداء أمني واستخباراتي ضعيف للحكومة الاشتراكية. وكانت هذه أكبر هدية يقدمها داعش لليمين الفرنسي المتطرف، لأن ما حدث زلزَل نظرة الفرنسي للآخر العربي والمسلم، وضرب فكرة التعايش والتسامح في الصميم، وجعل الناخبين الفرنسيين يصوتون أكثر فأكثر لمارين لوبان ويقتربون من طروحاتها المعادية للأجانب والداعية إلى تمتين الهوية الوطنية البيضاء والمسيحية ووضعها فوق كل اعتبار.
اقرأ أيضاً: اليمين الفرنسي المتطرف يحقق نصراً كبيراً في انتخابات المناطق