لم تكن لوحة "الصرخة" الشهيرة التي رسمها الفنان النرويجي إدوارد مونش عام 1893، مجرّد تعبير عن اغتراب الإنسان وعزلته في عصر يمور بالاضطراب، بل كانت نذيراً بالخراب الذي سيجتاح أوروبا والعالم كله على مدار القرن العشرين، وما تزال أصداؤها تتناسخ في جسد العصر حتى الآن.
تُرى ما الذي ينذر به كتاب الناقد العراقي فاروق يوسف "الفن في متاهة" الذي وصفه الكاتب نفسه خلال حفل توقيعه أخيراً في بيت "تايكي" في العاصمة الأردنية، ضمن فعاليات مهرجان "خان الفنون"، بأنه "كتاب مؤلم وجارح رغبتُ من خلاله في تقديم صرخة، ولكن ما الفائدة بعد فوات الأوان".
نادراً ما تُحيلنا لوحة إلى كتاب، أو يُرجعنا كتاب إلى لوحة، كما هو الحال مع "الفن في متاهة" الصادر حديثاً عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر". فقد غطّت مساحته صرخة هلع متواصلة أمام حجم الخراب الذي أحاط بالفن بوصفه "الوثيقة الوحيدة التي تؤكد أننا لا نزال أحياء".
صرخة الكتاب الذي قدّمته الناقدة، مي مظفر، في حفل التوقيع، ليست "صرخة بصريّة"، لكنها طالعة من هيمنة الفنون البصريّة الجديدة، بمفاهيمها المخاتلة والمخادعة والملتوية، على المشهد الثقافي في العالم، خصوصاً تلك المفاهيم التي هبطت فجأةً، ومن دون سياقات ثقافية واجتماعية، على ساحات العرض في العديد من المدن العربية مع مطلع الألفية الثالثة، واجتاحت مؤسساتها الفنية، بقوة دفع مريبة تحركها ماكينة المال والإعلام، وكأنها كانت تُخطط في الخفاء لترويج "فن" مقطوع الصلة عن محيطه الجمالي والاجتماعي، ومعزول عن أفقه البيئي والتراثي؛ فنٌ سرعان ما يتحول، لفرط تسليعه وعُزلته، إلى "كومة من المنسيّات".. أو المهملات.
الكتاب الذي حمل عنواناً فرعياً "الفن العربي بين المتحف والسوق وإملاءات الفنون المعاصرة"، وجاء في 230 صفحة من القطع الكبير، يُحدّد من دون لُبس أو إبهام أطراف العلاقة التي أفضت (عن وعي أو جهل) إلى نسج خطوط المتاهة التي دخل معها سوق الفن العربي في فوضى عارمة رعتها المزادات العالمية من جهة، وتبنّتها أسواق الفن الموسمية التي يديرها "خبراء" أجانب من جهة أخرى. وهي، بحسب الكاتب، "فوضى أدت إلى ظهور فنانين بلا فن، وسوق تفتقر إلى خبرة، اختلط فيها المزور بالأصلي، وتحوّل الفن إلى تجارة وانفتح على السوق العالميّة، في الوقت الذي يفتقر فيه إلى وجود أسواق محليّة".
لا يسعى كتاب "الفن في متاهة" الذي قدّمه الفنان ضياء العزاوي، إلى تقديم حلول واضحة للخروج من المتاهة، بقدر سعيه إلى إثارة العديد من الأسئلة، خاصةً المتعلقة بالدور الذي لعبته المؤسسة الفنية العربية في تشكيل المزاج الثقافي والفني. وهو مزاج غير منفصل عن مزاج مفهوم "الشرق الأوسط" بمعناه السياسي، والذي سيصبح معه الفن "فناً متحفيّاً، لكن من غير قضيّة إنسانيّة محليّة". في المقابل، ستصبح محاولة تغييب الفنان العربي الحقيقي عن المشهد الثقافي "بمثابة إجراء منظّم وصارم ومبدئي، لم تعد المؤسسات الكبرى ترغب في إخفائه".
وما إن نفرغ من فصول الكتاب وعناوينه الفرعية، حتى ندرك حجم التضليل والزيف الذي غطى المشهد الفنّي تحت مظلة فنون ما بعد الحداثة، مثل فنون التجهيز والفيديو والتصوير الفوتوغرافي والحدث والأداء الشخصي والمفاهيم والبيئة، والتي دأبت على تبنّيه أسواق الفن الموسميّة في الوطن العربي، خاصة "آرت دبي" و"آرت أبو ظبي" و"آرت بيروت"، مصحوبة بنوع من الاستخفاف بالعقول والحواس والذائقة الجماليّة، بحسب الناقد العراقي المقيم في السويد.
لا يستثني الكتاب الفنانون العرب من المسؤولية عمّا آلت إليه أحوالهم وأحوال الفن، بل يكشف سعيهم المحموم إلى تبرير وجودهم من خلال اللحـــاق بآخر صرعات فنون ما بعد الحداثة التي جعلت من الفن نفسه عرضة للانهيارات المأساوية التي تتعرّض لها المجتمعات العربية. ويرى الكاتب أن المزادات العالمية الجارية في بعض مناطق العالم العربي "تقام في أوطان تخلو من أسواق حقيقية، وقاعات فنية تعمل كوسيط بين الفنان والمزادات، واختلطت الأمور مع اكتشاف أن جلّ الأعمال الفنية التي يتهافت المقتنون على شرائها، إما مسروقة من المتاحف، أو مزورة".
يذهب صاحب "أقنعة الرسم" إلى اعتبار الفن في الوطن العربي "هالك لا محالة في طوفان من التجارب الجديدة التي تغدق عليها المؤسسات الدولية المنح وغيرها من وسائل الدعم المادية غير البريئة". الاطلاع على الكتاب بحسب مُقدّمة العزاوي، يبدو "نوعاً من الاطلاع على منشور سري يفضح سلوكيات المؤسسة الفنية العربية وفنانيها، وما تشيعه من أوهام منتفخة تنفجر بمجرد ملامستها إبرة الحقيقة". أما التفاؤل الحذر الذي مصدره ثقة المؤلف بالفن، فلا يشكّل له "إلا جزءاً صغيراً من طوق نجاة ممكن".
لئن كان كتاب "الفن في متاهة" بمعايناته وتقصيّاته وتساؤلاته المفتوحة، بمثابة صرخة هلع ورجاء باستعادة ما يمكن من القيم الجمالية والأخلاقية التي سلّعتها ماكنة المال، فإن أصداء "صرخة" النرويجي التي أطلقها قبل أكثر من 120 عاماً، ستظل تذهب وتجيء بلا انقطاع، لتؤكد نفسها بعنف صرخةً مكتومةً تصل إلى قمة جبل، ويعرف من يسمعها أنها صرخة نذير، أو استغاثة وألم.