يسعى تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى تثبيت أركانه في ليبيا، عن طريق نشر فكرته بين مجموعات شبابية، بعضها كان ينتمي إلى تنظيم القاعدة في ليبيا، والعائدين من مالي والجزائر وسورية، إضافة إلى استقطاب شباب جدد لفكرة التنظيم المركزية، والتي يدين فيها الأتباع بالولاء المطلق لـ "الخليفة" أبو بكر البغدادي.
ووفقا لمراقبين، فإن الخلافات بين تنظيم "الدولة الإسلامية" المعروف بـ "داعش" وبين تنظيم جبهة النصرة الذي يدين بالولاء لتنظيم "القاعدة" في سورية انعكست على المشهد الليبي، إذ إن تنظيم "أنصار الشريعة" في ليبيا، المصنف إرهابيا في الولايات المتحدة الأميركية، والموضوع على القائمة السوداء لمجلس الأمن الدولي بناء على طلب أميركي وفرنسي وإنجليزي، يختلف مع تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) داخل ليبيا، في أن الجهاد يجب أن يكون للأمة من خلال حاضنة شعبية، بينما داعش يعتقد بقتال كل من يخالفه، ويكفّر كل من لم يكن معه.
كما أن ولاء أنصار الشريعة في ليبيا لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، بينما ولاء تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا لرأس التنظيم في العراق والشام.
وثمة خلاف آخر بينهما، في أن القاعدة تعتقد بولاية "الملا عمر" لأنه هو من سبق، في حين تنظيم "الدولة" ينظر إلى أن الملا عمر، حصر خلافته في رقعة جغرافية محدودة، وهي أفغانستان.
داعش في درنة
منذ بداية الثورة الليبية، حرص الشباب السلفي الجهادي على توحيد الصف، واستغلال فرصة الفراغ الأمني، لجمع السلاح، والإعداد والتدريب، وتزويد الجبهات الخارجية بالعدة والسلاح.
ففي مدينة درنة، وفي ثاني يوم من ثورة 17 فبراير (الجمعة 18 فبراير) بدا واضحا انتشار مجموعات للشباب السلفي الجهادي، وجمعها للسلاح، ورغم أن كل تلك المجموعات كانت تعمل بشكل منفصل إلا أن الظروف أوجدت لها التوحد.
أبرز تحول في مدينة درنة، حدث عندما دعي الشباب السلفي الجهادي بمختلف انتماءاته إلى اجتماع كبير، عقد في مسجد عمر المختار بحي "الجبيلة"، وجاء الشباب السلفي من كل حدب وصوب ينشدون وحدة الصف والعمل على مقاتلة القذافي تحت راية واضحة الانتماء والتوجه.
كان سفيان بن قومو، المعروف باسم "أبو فارس" من أشهر الحاضرين في هذا الاجتماع، إلا أنه خيب آمال الحاضرين، بعد أن دُعي لإلقاء كلمة تلخص شيئا من أفكاره ورؤيته للمستقبل، إلا أن بن قومو لم تكن لديه أفكار واضحة، والتف حوله مجموعة من الشباب المراهقين وأعدوا معسكرا للتدريب "بغابة كشاف درنة" وما لم لبث أن تفرق عنه جزء كبير من الشباب، لأنه ليس صاحب مشروع كما جاء على لسان ممن كانوا معه، وأكتفي بعدد لا يتجاوز العشرين من المراهقين الذين لم تتجاوز أعمارهم العشرين.
في ذات الوقت، وقبل وصول قوات القذافي إلى بنغازي، كان التنسيق يجري على قدم وساق لإخراج مجموعة من درنة تقاتل قوات القذافي، وكانت هذه المجموعة بتدبير وتنسيق عبد الحكيم الحصادي، وتم تكليف سالم دربي بقيادة المجموعة. الحصادي لاحقا، وبعلاقات شخصية مع محمود جبريل رئيس حزب تحالف القوى الوطنية، أصبح دبلوماسيا في سفارة ليبيا بإندونيسيا.
بعد توسع رقعة المعارك وامتدادها إلى اجدابيا والهلال النفطي، تمت تسمية هذه المجموعة رسميا باسم كتيبة "شهداء أبو سليم"، واتخذت من عبارة (التوحيد أولاً) شعارا لها، وكان صاحب هذا الشعار "إبراهيم عزوز" العائد من "مالي" الذي توفي إثر حادث سير إبان الثورة، ولا بد من الإشارة إلى أن عددا من الجهاديين من مدينة درنة كانوا في مالي، وعادوا إلى المدينة قبل اندلاع الثورة بأسبوعين، وترجح المصادر، أن هذه المجموعة عادت لتنفيذ عمليات ضد نظام القذافي.
بالعودة إلى كتيبة "شهداء أبو سليم"، التي ضمت أغلب المنتمين إلى التيار الجهادي في المدينة، إلا أن سمة الغلو كانت واضحة بين المنتمين إلى هذه المجموعة، لكن هذا الاختلاف لم يعكر مسار الكتيبة التي كانت الأقوى من ناحية العدة والعتاد والمقاتلين من درنة.
شكل قدوم المستشار مصطفي عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي أول نقطة تحول في تاريخ كتيبة "شهداء أبو سليم" ومسار عمل التيار الجهادي في درنة، إذ قامت عناصر الكتيبة بحراسة المستشار بعد فتوى شرعية بجواز حراسة عبد الجليل خشية قتله، ومن ثم الدخول في فتنة لا تحمد عقباها، وخرجت أصوات من داخل الكتيبة تكفّر من قام بالعمل، ودعت إلى التحاكم إلى شرع الله في الأمر.
خرج العديد من أبناء التيار الجهادي من الكتيبة، وتفرقوا بين مختلف التيارات، وظلت هذه المسألة حاضرة، في المشهد المحلي بمدينة درنة وتاريخ العمل الجهادي، وزاد الأمر تعقيدا بعد أن صدرت فتوى أخرى بتكفير عناصر الكتيبة بعد أن وقعوا عقودا مع وزارة الداخلية والدخول إلى اللجنة الأمنية العليا المشتركة، ورغم أن الكتيبة قد عدلت ولم تستمر في عمل اللجنة بسبب اعتراضها على آلية العمل، وعدم الالتزام بلوائح مخالفة للشريعة، ظل العديد من عناصر التيار الجهادي، يكفرون الكتيبة وعناصرها ممن سلكوا هذا الطريق.
تشكل العديد من المجموعات الجهادية الصغيرة، التي عملت على اغتيال رجال الأمن والقضاة والإعلاميين والناشطين. ومن أبرز تلك المجموعات كانت (طلائع الخلافة وكتيبة الموت وكتيبة البراء بن مالك) وصدرت عنها بيانات تتبنى عمليات قتل واختطاف.
في ذات السياق، كانت جماعة أنصار الشريعة، تعمل وفق نظام معلوم المنهج، ولديها رؤية واضحة وخطط ثابتة، وأهمها العمل على الدعوة والإعداد الشرعي والبدني، ومن المهم الإشارة إلى أن أنصار الشريعة تمثل بشكل رئيس تنظيم القاعدة، كما وفد إلى المدينة عدد من المشايخ والأمراء من تنظيم القاعدة من بلدان عدة، لبحث تطوير وتوسيع العمل الجهادي، إلا أن وحدة الصف التي كانوا ينشدونها لم تتحقق.
استمرت عمليات القتل والتفجير في مدينة درنة، وبلغت ذروتها في شهر نوفمبر 2013 بشكل غير مسبوق، وقتل العديد من رجال الأمن والقضاة، والإعلاميين والناشطين والحقوقيين.
في وسط هذا الانفلات الأمني خرج صوت ينادي بوجوب توحيد الصف، لتحقيق الأمن وجمع الكل تحت راية واحدة، فخرج إلى العلن (مجلس شورى شباب الاسلام) والذي ضم بشكل رئيس المجموعات الجهادية الصغيرة والمتفرقة بالإضافة إلى أنصار الشريعة، وتم استثناء كتيبة "شهداء أبو سليم" لأسباب شرعية ذكرت أعلاه.
نجح مجلس شورى شباب الاسلام في بادئ الأمر في جمع كل الجهاديين الذين يعملون في مجموعات صغيرة وينفذون عمليات فردية، من شأنها تقويض الأمن بالمدينة، واتفقوا على إنشاء لجنة لرد المظالم واستتابة المرتدين وتفعيل القضاء الشرعي.
ومع الإعلان عن "الخلافة الاسلامية" في العراق والشام بزعامة البغدادي، تم حل مجلس شورى شباب الإسلام بعد بيعته لتنظيم "داعش"، وليكون بذلك ممثلا للدولة في مدينة درنة، واتخذ التنظيم خطوات على أرض الواقع لإثبات قدرته على تصريف شؤون المدينة، فشكل عدة دواوين فرضت سيطرتها على الحياة العامة للمواطن.
بعد إعلان البيعة في مدينة درنة لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، أعلنت مجموعات جهادية أخرى في بنغازي البيعة للدولة الإسلامية أيضا، بعض هذه المجموعات لم يدخل في أي تنظيم، وإنما كانت تعمل بشكل فرق صغيرة، بينما انشقت مجموعات أخرى وأعلنت الولاء للدولة الإسلامية، ويطلق على مجموعات درنة وبنغازي الدولة الاسلامية في ولاية برقة.
ما حدث في مدينة درنة طوال سنين الثورة، كان يحدث ما يماثله في مدينة سرت الليبية، إلا أن الأخيرة لم تسلط عليها وسائل الإعلام الضوء، بخلاف درنة التي كانت مصدر سؤال وبحث واتهام.
وتقسم الدولة الإسلامية في ليبيا إلى ثلاث ولايات، "برقة" و"فزان" و"طرابلس"، ويكون على كل ولاية وال (ليبي الجنسية) ويعد الوالي أعلى رتبة في الولاية، وتندرج أدنى منه رتب أخرى لا يشترط فيمن يترأسها أن يكون ليبياً.
ويعتمد "داعش" في ليبيا الآن على تغذية صفوفه بأكبر عدد من المهاجرين الأجانب، لإنشاء جيش مقاتل على غرار ما حدث في سورية والعراق، حيث يصل العديد منهم من اليمن وأفريقيا والمغرب العربي.
تقول "الدولة الإسلامية"، إن عقيدتها قائمة على التوحيد والخضوع لله تعالى، وترى بوجوب الشورى بين أهل الحل والعقد بديلا عن الديمقراطية التي تكفر من يؤمن بها، وكل ما يخرج وينبثق عنها من برلمان وحكومة، وتحكم بالردة على أفراد الشرطة والمؤسسات الأمنية والجيش، وترى أن الخلافة واجبة إذا تحققت شروطها، وتنصيب إمام على المسلمين، وإعلان حرب بالإطلاق على الكفار.
بنغازي
ساهم إعلان اللواء المتقاعد خليفة حفتر في السادس عشر من مايو/أيار العام الماضي عن عملية الكرامة العسكرية ضد التنظيمات التي وصفها بـ "الإرهابية" إلى إعادة تموضع تنظيم "داعش" نفسه داخل الحرب الدائرة في بنغازي.
ورغم أنه لم يشارك كثيرا في المعارك الدائرة مع قوات اللواء المتقاعد حفتر، إلا أخيرا في محور الصابري، ولم يدخل ضمن مكونات مجلس شورى ثوار بنغازي المناهض لحفتر، وذلك بشهادة منتسبين لمجلس شورى الثوار، إلا أنه استطاع جمع أسلحة متوسطة وثقيلة وضم أعداد من الشباب المنتمي للتيار الإسلامي الجهادي، واستجلاب أعداد من الأجانب من عدة دول عربية وإفريقية.
طرابلس
نسب إلى تنظيم الدولة الإسلامية في ولاية طرابلس قيامه بعدة عمليات في موقع إلكتروني لم يتم التحقق من نسبته له، عن قيامه بعملية اقتحام لفندق كورنثيا في السابع والعشرين من يناير الماضي، أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 10 أشخاص بينهم أجانب.
وأعلن التنظيم أن هذه العملية كانت بهدف الانتقام من وفاة نزيه عبد الحميد الرقيعي المشهور بأبو أنس الليبي في مشفى بالولايات المتحدة الأميركية في 3 يناير الماضي بعد خطفه من طرابلس في أكتوبر 2013 وهو ما أثار تساؤلات حول علاقة تنظيم القاعدة الذي تتهم أميركا أبو أنس الليبي بالانتماء له، وتنظيم الدولة الإسلامية الذي له خلافات فكرية وتنظيمية مع القاعدة.
سرت
اقتحمت مجموعة مسلحة مقر إذاعة مكمداس في سرت وبثت منها خطبا لزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي والناطق الرسمي باسمه أبو محمد العدناني، وأناشيد حماسية مؤيدة للتنظيم.
في مدينة سرت انتشر في البداية تنظيم أنصار الشريعة، الذي ينتمي أغلب أفراده إلى مناطق غرب ليبيا، حيث لم يستطيعوا الحصول على تعاطف شعبي أو حاضنة اجتماعية لهم، خاصة في مصراتة.
واختار المنتمون للتنظيمات الإسلامية المتشددة مدينة سرت مقرا لهم، نظرا لضعف وهشاشة المدينة، خاصة أنها خرجت من حرب التحرير في أكتوبر 2011 منهكة، ونزح أغلب سكانها بعد الحرب، وتُعد خالية من الأسلحة الثقيلة أو معسكرات بها قوات نظامية، فتحولت سرت إلى ساحة سباق بين تنظيم أنصار الشريعة، وتنظيم الدولة الإسلامية، وكتائب من مصراتة غرب سرت.