للوهلة الأولى، تبدو ورشة الفنّان التشكيلي والأكاديمي الجزائري، صادق أمين خوجة (1949)، مشتّتةً وعصيّةً على الفهم. قرابة 1600 عمل فنّي، أنجزها خلال نصف قرن، هو عمر تجربته التشكيلية، تتعدّدُ فيها المواضيع والتقنيات، وتتنوّع المواد المستخدمة؛ بدءاً بالألوان وليس انتهاءً بالجوارب الشبكية النسائية والأكياس البلاستيكية السوداء، عناصر استدعاها من استخدامها اليومي إلى لوحةٍ يطغى عليها السواد.
يستلهم أستاذ تاريخ الفن منذ أكثرمن 33 عاماً تجربته التشكيلية من بيئته الممتدّة من قسنطينة، شرقي الجزائر، إلى أقصى جنوب الصحراء، كما يستند إلى خلفية أكاديمية بدأها من "مدرسة الفنون الجميلة" في مسقط رأسه، وقادته إلى باريس، حيثُ عاد برسالَتي دكتوراه "في تاريخ الفن المعاصر" و"الجمالية وعلوم التقنيات". ومنذ 1987، شرع في إنجاز أبحاث عن التراث الثقافي في غرداية وطاسيلي والهقار (جنوب الجزائر).
منذ 1973، أقام أمين خوجة معارض شخصيةً وشارك في معارض جماعيةٍ، داخل الجزائر وخارجها، كما تُقتنى مجموعة من أعماله في متاحف جزائرية؛ مثل "متحف سيرتا" في قسنطينة، و"متحف المجاهد" في الجزائر العاصمة. ومؤخّراً، استضاف "قصر الثقافة محمد العيد آل خليفة"، في قسنطينة، معرضاً استعادياً ضمّ مجموعةً من أعماله المنجَزة طيلة أربعين عاماً.
تتوزّع الأعمال المعروضة بين "سلسلات" و"دورات"، وفق تسلسل زمن يبدأ من 1975 وينتهي إلى 2015، بحيث يرسم صورةً عن مسار الفنّان التشكيلي وتطوّر أسلوبه وتقنياته ورؤيته لثيماتٍ أساسية رافقت اشتغاله الفنّي منذ بداياته الأولى: الحياة والموت والاستمرارية. ثيمات قد تبدو مختلفة، لكنها تصبّ، في النهاية، في فكرة واحدة؛ هي الخلود.
خمسة محاور أساسيةٍ في أعمال صادق خوجة تدور حول تلك الفكرة؛ هي: الكتابة البربرية، والكيس البلاستيكي، والشبكة النسائية، واللون الأسود، والفن التلصيقي. تحضر الفكرة، أيضاً، بأبعاد مختلفة، في سلسلاتٍ يشتغل ضمنها، وتحتوي كلّ واحدةٍ منها على عددٍ من اللوحات قد يصل إلى مئتي لوحة.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول التشكيلي الجزائري: "أشتغل على الفكرة في لوحةٍ قد تمتدّ إلى لوحاتٍ أخرى ضمن سلسلةٍ تُقارِب ثيمة واحدةً بتقنياتٍ مختلفة، ولا أتوقّف إلّا حين أجد أنه لم يعد لديّ ما أقوله. بالنسبة إليّ، اللوحة الواحدة لا تكفي لاستيعاب كلّ الأفكار التي أريد مقاربتها، بينما تسمح لي السلسلة بإبداع تقنياتٍ مبتكرة والذهاب بالفكرة إلى حدّها الأقصى".
الكيس البلاستيكي الأسود هو أحد العناصر اليومية التي تحضر في لوحته بشكل طاغٍ: "إنه يُشكّل ظاهرةً اجتماعية وبيئية بامتياز، ولديه حضور استثنائي في الحياة الجزائرية يجعله بمثابة لغزٍ، فنحن نراه دائماً لكننا لا نستطيع فهمه. هو حاضرٌ في مقتنياتنا اليومية، الأغلى والأرخص ثمناً: نُخفي فيه المال والذهب ونحمل فيه الخضار إلى المنزل. وحين نفرغ منه، نرمي فيه أوساخنا. هذه الحالة المفارِقة كثيراً ما استرعت اهتمامي".
ثمّة، هنا، بعدٌ آخر يتعلّق بفكرة الاستمرارية: "النفط، وهو المادّة التي تُصنَّع منها الأكياس البلاستيكية، يحيلنا إلى الماضي؛ من حيث أنه مكوّنٌ من البقايا البيولوجية التي تراكمت على مدى ملايين السنين، وأيضاً إلى المستقبل؛ من حيثُ التساؤل عن استمراريته كعنصر رئيسي في الحياة المعاصرة". يضيف: "الكيس البلاستيكي يحيلُنا، أيضاً، إلى الاستمرارية؛ فهو يبقى في البيئة لمئات السنين. من هنا، وظّفته في اللوحة كمادّة قادرة على البقاء، عكس الألوان الزيتية التي لا تبقى أكثر من 150 سنة".
يتصادى ذلك مع الأسود المهيمن على كثيرٍ من لوحاته. والأسود، بالنسبة إليه، هو اللون الذي يجمع الألوان جميعها: "كان الإنسان، منذ ما قبل التاريخ، يرسم بالفحم. إنه فضاء لا نهاية له، وهو أحد الألوان الأولى المهيمنة، هو باب الظلمات المجهولة ومقبرة الأبدية والوجود المطلق. يحلينا، بهذا المعنى، إلى فكرة الموت، لكن ليس كنهاية، بل بوصفه شكلاً من أشكال الاستمرار".
حضور "الشبكيّة النسائية" في لوحاته يأخذنا أيضاً إلى فكرة الخلود، لكن بطريقة عكسية؛ فالجوارب الشبكية التي كانت موضة في قسنطينة وغيرها من المدن في وقت مضى، كانت تُعدّ عنصراً أساسياً في جمال المرأة وأناقتها، لكنها لا تستمرّ أكثر من يومين أو ثلاثة أيام، قبل أن تتمزّق، وهو ما يرى فيه أمين خوجة رمزاً إلى هشاشة الحياة المعاصرة وتداعياتها؛ وزيف العلاقات الإنسانية وتفكّكها: "لم يكن بوسعي أن أبقى ساكناً أمام مستجدّاتٍ غير إنسانية، وكان لا بدّ للعمل الفني أن يتقمّص أشكالاً تشكيلية جديدة".
أمّا الكتابة البربرية، فيعتبرها الفنّان جزءاً أساسياً من اشتغاله التشكيلي على الثقافة والهوية الجزائريتين، والذي يرتبط، عاطفياً، بالجنوب الجزائري حيثُ الصحراء. يقول إنه اكتشف حروف "التيفناغ" (الحروف الأمازيغية) بعد عودته عام 1979 من فرنسا -التي درس فيها- إلى الجزائر: "زُرتُ مدينة بسكرة، بوّابة الصحراء، وهناك اكتشفت أشياء لم أرها في باريس: الضوء، والفضاء الممتدّ، والكتابات التي تعود إلى أكثر من مئتي ألف عام. أدركتُ أنه، وبينما تناول الفن الحديث والمعاصر هناك، في فرنسا، كلّ شيء تقريباً، لا تزال هنا مناطق عذراء لم يجرِ الاقتراب منها".
هكذا، سعى أمين خوجة إلى استعادة تلك الأبجدية المنسية والمهجورة وإحيائها بتراكيب تشكيلية معاصرة، والتي تمثّل بالنسبة إليه "شكلاً تعبيرياً يتيح إمكانية مواجهة الصور النمطية والتفكّر في أصولٍ جرى طمسُها بفعل الاستعمار وثقافته المتمدّدة، واستعادة حضارتنا إلى الذاكرة الجماعية". يضيف: "طمسُ تلك العناصر لا يعني شيئاً غير قتل شخصيتنا الثقافية. ودوري كفنّان أن أقول الحقيقة".
نلمس هذا الاتجاه في سلسلة "تينهينان"، التي تضمّ مئتي لوحة أنجزها بدءاً من 1998، وتتناول تاريخ الملكة تينهينان، التي حكمت قبائل "التوارق" في القرن الخامس الميلادي، وتحضر الصحراء كخلفية فيها.
أمّا الفن التلصيقي، فيقول أمين خوجة إنه يمثّل مرحلة هامّة من مساره الفنّي، كرّس خروجه من تأثير التشكيليين الفرنسيين ودخول مرحلة جديدة، مضيفاً: "الكولاج أشبه بمقياس الهزّات الأرضية، إذ يمكّننا أن نسجّل، بدقة، نوعية احتمالات التعبير التشكيلي، ويتيح لنا إمكانية التعبير النقدي والساخر، وهو، بطابعه البسيط، يبعث على التأمّل أكثر".
انطلاقاً من إحدى رسالتَي الدكتوراه اللتين أنجزهما في فرنسا، والتي تناول فيها موضوع "الجمالية وعلوم التقنية"، نسأله عن رؤيته للعلاقة بين الفن والتقنية والموهبة، فيُجيب بالقول إن الفن المعاصر بات يعتمد، بشكل أساسي على التقنية، وإن التكنلوجيا الحديثة أتاحت ابتكار أشكال فنّية جديدة؛ مشيراً إلى لوحاتٍ من سلسلة "تينهينان" أنجزها على مساحةٍ لا تتعدّى سنتيمترين اثنين: "لم يكن لأيّة مساحة أن تستوعب فضاءً ممتدّاً كالصحراء، فلجأت إلى تقنية مبتكرة في عملٍ صغير ودقيق ينفذ من خلاله الضوء، فينعكس على أيّة لوحةٍ مهما كان حجمها كبيراً، والنتيجةُ كانت عملاً فنّياً حيّاً".
لكن الميل إلى التجريد والسير في اتجاه معاكس للقوالب الفنية الجاهزة قد يعود سلباً إلى العمل الفني ويجعله عصيّاً عن الفهم وبعيداً عن متناول الجمهور. ملاحظةٌ يعقّب عليها أمين خوجة قائلاً: "ما يهمّني، بالدرجة الأولى، هو أن أخلق صدمةً عند المتلقّي وأدفعه إلى التساؤل".