إنّ المتأمّل في المنجز الأدبي لأمجد ناصر وما راكمه من دواوين شعرية يجد نفسه أمام شاعر من طينة خاصة، يبدع بصمت دهشة السؤال وقلق الوجود بحواسه التي يستفزها جميعها ليبني عالمه الأورفيوسيي، كأنه ناسك من زمن بعيد يجرب في كل مرة طقوسية الكتابة بما هي أثر فني تتأسس في جوهرها على احتمالات قصوى لجعل المعنى يحمل أفقًا ذا أبعاد كونيّة.
فلا غرابة أن تشكل هذه التجربة مختبرا بحثيا لنقاد من أجيال عديدة تجاورت فيها مقاربات نقدية. كيف لا وهي التي تجعل من الرمزية وإمكانات التأويل فضاء للكتابة التي تتحول في رؤيا أمجد ناصر إلى منجم خصب لتوليد شعريات تأبى على أن تصنف في قواعد جاهزة. إنها كتابة قلقة تعرف أن تنتقل من مفهوم القصيدة إلى الكتابة باعتبارها اختيارا جماليا في الوعي الكتابي من جهة، والحياة من جهة ثانية.
فلا غرابة في أن يسعى في حفرياته داخل أرض الكتابة إلى إعادة تشكيل حدود العالم وفق تصوّرات غير موجّهة، فالحرية في قول الحقيقة على نحو شعري كانت من سمات الخصوصية التي مكنته من ترويض القصيدة لتستجيب إلى شروطها النوعية والإقامة في حالات الممكن والمستحيل.
تحمل قصائد أمجد ناصر إبدالاتها مما يتيح لها أن تكون حاملة لرمزيات عديدة تجعل من النهايات بابا ينفتح أكثر على احتمالات مفاجئة تربك متلقيها لينخرط بدوره في فعل تأويلي كان من أبرز تجليات الوعي المفارق الذي يصدر عنه في ممارسة طقوسية القصائد؛ فالشعر بالنسبة إليه هو النفس وليس مجرد وظيفة موقّتة بل هو الروح أو الكهرباء التي تسيّر حياتنا. إنّ القصيدة تسكنه وهي شاغله الذي يفتح له الأبواب ليعبّر عن قضايا جمّة.
ولعل عبوره الهادئ إلى جنس الرواية جعلنا نلمس قدرته على إرباكاته من داخل أسئلة التحوّلات التي تعرفها الرواية العربيّة، وتفكيكه الرمزي لضرورات اجتماعية ملحة تتمحور أساسا حول الفكر والمجتمع والسلطة والحرب والسلام والفن والحب والخيانات والإنسان في هشاشه وقوته وبطشه وفلسفته التي يمكن إدراكها في قراءتنا للخطابات التي يدسها بعناية في شخصياته الحرة التي تمنح لقارئها بلاغة الحيرة.
من منا يستطيع أن ينسى شخصية يونس الخطاط وميتافيزيقا التيه في المعنى الحارق للمقاومة والتّفكّر في شؤون المجتمع والسلطة والإنسان بتركيبته البسيطة والمعقّدة. وفي كتاباته دعوة إلى إعادة النظر في هذه الأمور.
كما يغوص عميقا أمجد ناصر في ممارساته الإبداعيّة عن طريق رصد التحوّل الفكريّ والنفاذ إلى زوايا لا يجرؤ كثير من الكتاب على اختراقها ما لم يكونوا ملمين بالسرديات الكبرى والصغرى فضلا عن تمرسه بالصنعة الروائية وحداثتها وجماليات انفتاحها على الأجناس الأدبيّة وغيرها رغبة منه في الكشف عن الهامشي القابع فينا ومن حولنا، ومبرزا سوء الفهم بين العالم الواقعي والمتخيل والإنسان والتشوهات الكافكاوية التي باتت تهدد إنسانيتنا في صميمها اللامحدود، كما يمرّر لنا العادات والتّقاليد البدويّة ونمط العيش. إن نصوصه هي رحلات جوانية في تعددية الأصوات والحالات والجغرافيات الثقافية والهويات الهاربة.
لهذا يمتاز أسلوبه بجماليّة لا تظهر تكلّفاً بل تأتي الصّور على طبيعتها مستمدّة من المشاهد والصّور التي يعاينها الإنسان في حياته اليوميّة، وذلك من خلال الحكي والوصف وإدخال الحوار أحيانًا واستطاع بذلك الشاعر الرّبط بين أسئلة العصر والأسئلة الجماليّة. فما دام الشّعر يمثل هويّة أمجد ناصر الذي لا يتركه حتى وهو ينزاح نحو جزر الكتابة الروائية العذراء ليدون تاريخا جديدا أكثر التباسا نكاية في الاطمئنان باحثا جوالا عن منطقة احتمال يشيد عليها تاريخ إنساني آخر لما حفظناه خلسة في بطون الكتب السيارة.
إن منطقة الاحتمال هذه تتخذ مظهرا جماليا في قصيدة أمجد ناصر من خلال بناء كتلة شعرية مكثّفة تحمل بعدًا إنسانيًّا. أو ليس هو الفارس العربيّ الّذي يحمل صفات الفروسيّة في زمن الهزائم والخراب والعقم والضياع؛ فارس يحمل قلب شاعر حقيقيّ يجابه البياض بقوة الحبر كشكل من أشكال مقاومة الخرس الإنساني الطافح بالرغبات العابرة، يحفر في الحرف العربي، ويوسع معجمه ويتّعمّق في صوغ جماليّة مفتوحة تسعى إلى جعل الأدب حياة أخرى ممكنة، وهذا ما يجعلنا نفكّر في المقهى الذي ذكره أمجد.
ونتساءل هنا، تراه هذا المكان الآخر شبيه بالذي تحدّث عنه كونديرا في روايته الشهيرة "الحياة في مكان آخر" وهل المكان الآخر حيث الحياة المختلفة قد تكون في مقهى موحٍ يدعو إلى خلق عالم من الشعر فتتألّق القصيدة بين يدي الشاعر؟ تراه يبحث عن صباح آخر وكلام آخر، فنجد أنفسنا أمام شاعر يبحث عن المختلف دائمًا؟
إنّ الصّورة الشّعريّة لدى أمجد ناصر تشكّل لوحة مشهديّة ذات فضاءات متعدّدة فتجذب القارئ لتفكيك استعاراتها وتوقّع ما لا يتوقّع وتأويل أعماقها. كما يجمع أمجد ناصر ما بين الطّبيعة التي خرج منها الإنسان وبين الآلة التي صنعها فمن الأشجار والليل وشقائق النعمان والفجر والقرويّات والدروب إلى الإسمنت والبنادق ...
من ديوان "شقائق نعمان الحيرة":
خيبة أمل البلاد
إن البلاد التي راودتك في فنادقها/ مرّة في المساء/ داهمتك مدافعها/فجأة في الجبال/ وكانت بلادً... هذه البلاد مزيج من الحزن/ والشجر المتسامق/ والطبقات الفتيّة (ديوان مديح لمقهى آخر)
عن الشعر يقول أمجد في قصيدته إلى سعدي يوسف: فها نحن نشقى/ بأوجاعنا اللّغويّة/ نشقى لأن ّ القصائد/لا تطفئ الأسئلة/نشقى لأنّ القصائد/لا تبلغ المرحلة/وهذي قصائدنا ورق ناشف في الحلوق
ص 197: هناك من يموت يأسًا وأنا متّ لأنّ الأمل ظلّ يحجل حولي. .... يأخذك إلى أصل الماء ويردّك ظمآن بلعب بك لعلة البيضة والحجر.
"لست متأكّدًا أنّ الشّعراء قادرون على التّنبّؤ بموتهم".