مملكة آدم لأمجد ناصر: قصيدة الآخر والجميع

27 مايو 2019
(أمجد ناصر في لندن)
+ الخط -

في مجموعتهِ الشعريّة "مملكة آدم" الصادرة حديثاً عن منشوراتِ المتوسط/ إيطاليا يقدّم الشاعر أمجد ناصر مستوى آخر للشّعر بوصفه حالةً كليّة، لَنَا أن نقدم من خلالها عالمنا المريب. الإيمان بالقصيدة ككائن يتسرب حولنا وفينا بخفّة ووضوحٍ وكأنّه يقول فلتدع الكتابةَ تقودُ الحياة، معرفة الشّعر هي تخيله حتى التخمة، وهذا ما يفعله أمجد ناصر، يتخيل الشّعر، يرسم له عينان تشمان وتسمعان، يرمي الحواس في طاحونة الحقيقة، لتمارس سطوة أخرى، سطوة على الوجود القاسي. في مجموعته الجديدة يتتبع الشاعر الإنسان المهمّش، المختبئ خلف خرابِ رؤيتنا من خلال توضيح تلك الأدوات التي تنتمي للقسّوة وللقوة الأكبر التي يمتلكها آخرون، في كتابةٍ لا يوقفها شيء، فلا قسوةً تضاهي ما حدث.

الكتابة عن شعر أمجد تبدأ في اللحظة التي تتوه في ذاتكَ، لكنكَ تعرف هذا التيه، إنّها المعرفة الخام التي تنقلب شعراً، نثراً، سرداً أو رواية.

يتابع أمجد في مجموعته الجديدة بناء القصيدةِ التي أسسّها باكراً نحو عمقٍ آخر يحتوي القصيدة العربيّة الحديثة، مازجاً المعجم الصحراوي بالقصيدة الحديثة، مستنداً على حقيقةِ وصدقِ ما يريده ليشكّل قصيدة الآخر والجميع، متكئاً على السرد في بعض الأحيان وعلى الانتقال بين طبقاتِ الجحيم أحياناً أخرى ليصلَ المغزى الحاد لوجودنا دون انقطاع في نفسه الشعريّ الرهيف والمتقن.
"لا تَقولُوا إنهُ الموعدُ،
لا تقولُوا إنه مكتوبٌ،
لا تقولُوا إنَّ في ذلك حكمةً، لا تُدركُها أبصارُنا، فليس هذا وقتَ أولئكَ الأطفالِ الذي يتعلَّقون، برعبٍ، في أذيالِ أمّهاتِهِم".

يكتبُ أمجد في مملكة آدم من فوق، من الكليّة في الشّعر والمعرفة، الإنسان كائن ذو قامتين، يقتل، يأسر، يقطع الرؤوس ويغتصب، من هنا يبدو الشاعر كائناً كليّاً في الكتابة تتخلله الأحداث وتقود ألمه، إنّها الكتابة من فوق كلّ معرفتا وحججنا السابقة، تقديم الأرض بصيغتها الأخرى، من زاوية الجحيم وطبقاته السبع في تقسيمات لا تعكس عدمية ما يحدث وحسب بل تتجاوز المخاوف الآنية لتواجه الأسئلة الكبرى عن الله والشيطان والإنسان، بُعدٌ يشبه ما يحدث من حولنا لكنه أكثر إلحاحاً، وكما قال الناقد صبحي حديدي في مقدمة المجموعة: " فهذه، المعاصرةُ على وجهِ التحديدِ، شهدتْ وتشهدُ أفانينَ جحيمٍ لا تتفوَّقُ على خوارقِ العذابِ في مختلفِ تنويعاتِ الجحيمِ التي صوَّرتْها المخيّلةُ الإنسانيةُ، أو توعّدتْ بها الأساطيرُ والنُّصُوصُ المقدّسةُ، فحسب؛ بل لعلّها، أيضاً، تتحدَّى أقصى ما يملكُ التخييلُ من طاقاتِ استحضارِ الشَّرِّ، وتمثيلِ القسوةِ، واستكناهِ الألمِ، وتجسيدِ الموتِ." هذا البعد الآخر الذي يأخذنا فيه أمجد، القادم من حياتنا الأرضية الجحيمية، يتركنا مشدوهين، متى مرق كلّ هذا الشّعر والموت ولم نلحظ!

"هذه الأرضُ مثلُ كلبٍ شاردٍ تلقَّى رَكلةً على خاصرتِهِ من بسطارٍ، فراحتْ تعوي وتعوي، ولا شيءَ يرتدُّ إلا الصَّدى السيّمفونيّ للآلامِ"

مملكةُ آدم هي عالمنا وفظائعنا، جرائمنا، حقيقتنا، المملكة التي تنحو لتكون ملاحقةً للإله والبشر، لا يُستثنى أحدٌ من ألم الإنسان وإدراك فظاعة العالم حين يُعاد تدويره داخل الشاعر ليغدو محكيّاً، يخلق أمجد الشّعرَ في النثر والسرد والرواية وكأنَّ شعريّته هي الخيط الواصل بين كلّ جوانب الحياة، بين عبثيتها وفظاعتها وشراستها، في بلاغة عالية وصور محكمة تنتمي لكل هواجسنا التي عرفناها، صور تنهض من الألم ممتصّة أي خراب حولها لتكوّن ذاتها، صورٌ صادقة، محكمة، صادمة ومثيرة لمشاعر دفينة يثيرها سؤال الموت والنهاية، فليست القدريّة وحدها من تحكم المجموعة الأخيرة، الشاعر يفهم الله كما يفهم الشيطان والإنسان، يغدو الجميع أطرافاً في لعبة تبتلع أجسادنا، ذكرياتنا وأحلامنا.

"ما وراءَ الطبيعةِ مقرفِصةً
تعدُّ على أصابعِهَا الألفِ
تُخطِئ في العَدِّ،
ثمّ تعودُ إلى الصفرِ من جديدٍ."

يحافظُ ناصر على الشعريّة العالية رغم المناخ الجنائزي والأقرب إلى الجحيم وأدوات العذاب والموت التي لا تنتهي، كيف يمكن وصف الجحيم بشاعرية؟ وتطويع أدوات الألم لتغدو معناً للحقيقة؟ إنه الدخول فيها بصدق وخفّة ومعرفتها وجهاً لوجه، نحن نكتب الأشياء التي نعرفها، تلك التي صادفناها وفي كلّ مرة تزيد معرفتنا بها يبدو المعنى أوضح وأقسى وشفيفاً كعذاب لا ينتهي.

إنّه الجحيم السوريّ للوهلة الأولى لكنه يستخدم بُعداً آخر، بُعداً نستشفُّ من خلاله نار العالم أجمع، اختارَ سورية لتكون جحيم مملكته، لكنها ليست الجحيم الوحيد، إنّها منصة الخذلان والألم الذي يستشعره الإنسان على هذه الأرض، إنها المثال والحقيقة الأكثر عريّاً في يومنا.
"عالِجوني بروحِ الخردل
والأياهوسكا
والداتورة،
بالسّذَّاب السّوريّ
والحِداءِ الذي يشبهُ بكاءَ الجِمال
لأصعدَ إلى السماءِ الخامسةِ
حيثُ قَدَمُ اللهِ المتشعّبةُ تغسلُهَا النوايا الطَّيِّبةُ
وأيدي الحورِ العِين."

من خلال مروره في سبع طبقات من الجحيم، نرافق أمجد ناصر في رحلة الشقاء البشريّ الذي صنعه البشر أنفسهم، إنّها التجربة التي تعني لنا المعرفة وفهم تلك التي تخصّنا، تنقلنا تجربته إلى واقع شعريّ مختلف وإلى مستوى آخر من خلط الواقع بالسحري والخيال وكأنّه دوماً على شفير اكتشاف عالم آخر، عالم لا نملُّ من تتبعه عبر هذا الحدس المرتاب رغم قسوته، مكتشفين في هذا التتبع الكثير من شعرنا الخاص ومن معرفتنا الناقصة ومن عالمنا الذي غدا مملكة قاسية وجحيماً بشرياً.

دلالات
المساهمون