على غرار دانتي في “الكوميديا الإلهية” والمعري في "رسالة الغفران" يدخل أمجد ناصر الجحيم في طبقاته السبع، إنما ليس ميتاً كشعراء المعري، بل حيِّ، “كنت بلا نفس تقريباً”. ليس من عادات الجحيم أن يستقبل الأحياء، وليس من عاداته أن يعيدهم من حيث أتوا "فمن يصل إلى هنا لا يعود". فكيف وصل إذاً إلى مكان الميتين، إلى المكان الذي يُحاسب فيه الميتون على أفعالهم في الحياة؟ يقول أمجد ناصر:
“لا أعرفُ كيف ومتى وصلتُ إلى حيثُ لا يصلُ الأنصارُ أو الشُّهُودُ.
جاءتْ عرباتٌ تجرُّهَا كائناتٌ، نصفُها بشريٌّ ونصفُها حمارٌ وحشيٌّ.
رموني مع الذين قضوا نحبَهُم...“
ثم يصف الواصلين إلى هذا المكان:
“هذه الوُجُوهُ أقنعةٌ لمخلوقاتٍ أخرى، لا تشُبهُنَا، شُقَّهَا كي ترى الأسلاكَ والوشائعَ تنقلُ رسائلَ البلطةِ، والبراميلَ التي تسَّاقطُ على الرُّؤُوسِ كالمَطَر الذي أرسلَهُ الله إلى أُممٍ أخرى. لا ينبغي أن أُجدِّفَ أنا الذي ينتظرُ في طوابيرِ الواقفينَ أمامَ الأرشيفِ السَّماويِّ مع موتى لا أسماءَ لهم. أو لهم أسماءٌ لا تعني شيئًا في هذه الدياميس".
وإذ إنه وصل حياً، فقد سأله مسؤولو الجحيم: من أنت:
“سألُوا مَنْ أنا؟ نسيتُ، بالضبطِ، مَنْ أكون، فقلتُ لهم: رسولٌ! جفلُوا. ليست هيئتي لرسولٍ ولا
يُرمَى الرُّسلُ، كيفما اتّفق، في عرباتِ الموتى. تغيّرتْ ملامحُهُم، فقلتُ لهم:
لستُ رسولاً إلهيًا، فلا أقوى على ذلك، ولكنْ، بما أنني وصلتُ إلى
هنا، ولم يفعلْ ذلك حَيٌّ قبلي، ربّما شاعران، أحدها يُسمّى المعرِّيُّ،
والثاني يُدعى دانتي، فأنا رسولُ الذين ظلّوا في بلاد البراميلِ والسارينَ في
مملكةِ آدم التي ترون من مرتفعاتِكم البعيدةِ هذه اللهبَ الذي يتصاعدُ من
أطرافِها، والدخانَ الذي يلفُّها، والروائحَ التي تزكمُ الأنوفَ (ألا تشمّونها؟)“.
لقد ذهب أمجد ناصر في تلك الرحلة الخطيرة، وتجشم عبء الوقوف بين موتى في الجحيم، موتى سوف يتم تعذيبهم، ومن هناك، قال إنه “مثل موسى لن أبرح مكاني هذا الذي لا أعرف أين هو حتى أراه...“ ليشرح له ماذا يحدث في “مملكة آدم” (عنوان الكتاب). وعبر كل تلك الإشارات الواضحة نعرف أن مملكة آدم هي سوريا، وأنه فعل كل ذلك لينقل عذابات السوريين، خاصة أولئك الذين قام “الرجل/ الزرافة”، كما يسميه، بضربهم بالكيماوي. على هذا فهو رسول السوريين.
في بدايات الثورة السورية، وكان ثمة بعض المراسلات بيني وبين أمجد ناصر، كتبت له: “إنك تحمل سوريا على ظهرك كالحدبة”. خلال أشهر الثورة الأولى، وربما خلال السنة الأولى لم يتوقف عن نقل وتحليل مجريات الثورة وعن التعريف بالسوريين وبهمجية النظام، إن كان عبر مقابلات تلفزيونية، أو كتابة مقالات صحفية، وعبر كل ما هو متاح. كان متدخلاً كما ينبغي لشاعر صاحب قضية، وقد كانت سوريا قضيته مثل الأردن (بلده) ومثل فلسطين، بل كانت، خلال الثورة، قضيته الأولى.
اليوم، بعد ثماني سنوات، يصدر ديوانه “مملكة آدم” ككتاب توثيقي للروح السورية التي تطوف في الأعالي والأرجاء محمولة على ذاتها، وعلى نص أمجد ناصر البهي. في هذا النص كان وفياً لأسلوبه التعبيري، وكان متخطياً إياه بالوقت نفسه. هنا دخل كرجل غاضب غير معني بالشعر، ولا بالنثر، ولا بالكتابة... كان رسولاً يريد الإبلاغ، والعتب، والتأنيب، والشرح... وبالوقت ذاته كان معنياً بذلك كله، فتوثيق العذاب وتوثيق موت من لا يريد الموت، من داهمه الموت وهو نائم، وهو ببيجامة البيت، توثيق رائحة الموت يختلف عن التوثيق بالمعنى الذي تحيل إليه المفردة، وهذا يتطلب انتباهاً يقظاً على الأسلوب، وعلى تخطيه. هنا، لم يضع الشاعر حدوداً للشعر، ولا حدوداً للنثر. يبدو وكأنه يحيل إلى مفهوم الكتابة بلا حدود، بلا أطر مسبقة، الكتابة وكأنها شيء يشبه العشب إذ يطفح. كتابة عشبية إذاً.
انشغال أمجد ناصر النبيل بالشأن السوري كان تفكيكاً لمقولة استبدادية مشى عليها، بوعي أو بدونه، الكثير من الشعراء وهي أنه على الشاعر أن يكتب دون أن ينغمس بالواقع الملوّث، حيث إن مكان الشاعر هناك، في الأعالي، أما الناس فلهم الله! ولهم من يعبر عنهم غير الشاعر... في غمرة تنقله في طبقات الجحيم يسأل أحد الشعراء الذين يتعرضون للتعذيب: „وماذا عن الأرض؟” فيجيب الشاعر: „يرثها عبادنا الصالحين”. لقد أعاد ناصر الحقيقة إلى مكانها ورمى تلك المقولة في طبقات الجحيم الأشد إيلاماً.
كذلك فكك مقولة أخرى وهي أنه ثمة فصلاً بين الشاعر وبين النص. فالشاعر يُسأل عن نصه لا عن فعله، أو موقفه. وهي المقولة التي يتمسك بها كل الشعراء والكتّاب الذين يبيحون لأنفسهم الموبقات بما فيها الانحياز للمستبد، تحت مقولة: أنا، فقط، نصي. ولطالما أساء هؤلاء لمفهوم الشعر ولمفهوم الثقافة عندما صمتوا عن مجازر المستبد ونظام الهمج و”مشوا على حل شعرهم” تحت تلك المقولة نفسها. بينما أمجد ناصر وضع في مطهره الجحيمي الشاعر كنص وكشخص بلا فصل ولا مقولات استعلائية اعتادت عليها ثقافة الحداثة بنسختها العربية. يقول:
“ولكنْ، هل يُحشَر الشعراءُ في الجحيمِ؟
يُحشَرون. ثمّةَ عددٌ منهُم هنا.
أَيُحشرونَ في الجحيمِ بسببِ شِعْرِهِم؟ أم أفعالِهِم؟
بسببِ هذا وذاك“.
وكنوع من تأكيد الانتماء الذي يتوجب على الشاعر، يرى، في هذا المطهر الجحيمي الملتهب، شعراء يعرفهم، فيسأل أحدهم:
“قلتُ له:
كيف يمكنُ أن تكونَ هنا؟ فماذا اقترفتَ ممّ لا نعرفُ؟
يقولون: كنتُ أرتدي ثيابًا أنيقةً، وشعبيَ فقيرٌ“.
***
منذ زمن بعيد لم أومن بإسباغ صفات برومثيوسية على الشعر، ولا تغييرية، ولست مقتنعاً بما يروجه الشعراء عن أنفسهم أنهم أنبياء، ولا على الشعر أنه يحمل نزعات نبوية، فالتاريخ يسير بمعزل عن رغبات الشعراء وعن كتاباتهم، إلا أن أمجد ناصر، وفي الطبقة السابعة من الجحيم، أشد الطبقات استعاراً، حيث تخصص لتعذيب أكثر الناس إجراماً يرى “الرجل /الزرافة” في إشارة واضحة إلى رئيس نظام الهمج السوري بشار الأسد ويقول:
“لم يكنْ عذابُ هؤلاء شيئًا أمامَ عذابِ الرجلِ/ الزرافةِ، فقد كان الزّبانيةُ
يجزُّون رأسَهُ، ويتقاذَفونَهُ من وادي الأفاعي إلى وادي العقاربِ، ثمّ ينبتُ
له رأسٌ جديدٌ، فيعيدُون جَزَّهُ وتقاذُفَهُ بلا توقُّف.“.
فلو كانت هذه نبوءة فأنا أصدقها.
رسل الآلام، عبر الزمن، أوصلوا رسالتهم. كان ذلك عبر مكابدة ومخاطرة وإصرار، وحيث أن أمجد ناصر كابد وخاطر وأصر لايصال رسالة الألم السوري الفريد، فقد وصلت أيضاً. لا بد أنها وصلت.