شباب 25 يناير.. الساخرون من الألم

05 مايو 2014

شموع لشهداء 25 يناير بميدان التحرير (تصوير إد أويحيى/Getty)

+ الخط -

من خلف القضبان، تنضح وجوههم بابتسامةٍ، لم يرض أن يحتفظ بها الداخل المملوء دهشة وألماً وأسئلة عن معنى الحرية، وكأنهم يسألون: "هل نحن الأحرار أم حرّ مَن هو بالخارج، الذي يخشى حتى مجرد وجودهم على قيد الحياة، حتى وإن كانوا مكبّلين، معذبين".
شباب ثورة 25 يناير، الساخرون من الألم، من العدل العالمي الحقوقي الإنساني الذي تواضع لدرجة الانحطاط.
من ذاك الذي يعتقل، ويعذّب، ويقتل نفوساً بريئة وحرّة ويخلي سبيل السجّان، بل يتردد في أن يدعمه، ليس رجوعاً إلى ضميرٍ، أو إنسانيةٍ، وإنّما إلى ميزان ومقياس المصالح العالمية؟ كيف ستهبط، أو ترتفع، بورصة التأييد لأميركا وغيرها، إنْ دعمت النظام المصري، أو كفّت يدها؟
 هذه هي الحريات التي ناضلنا من أجلها، وهذه هي الديموقراطية التي تمثّلنا بأخلاقها المصنوعة والمفصّلة بالقياس. كلٌّ حسب مقاسه، كلٌّ وطاقته في احتمال ثوبها على جسده. فهناك، ويا للمفارقة، مَن لم يضق جسده، ولم يتألم من ضغط وحرارة البزة العسكرية، لكنه ضاق بثوب الديموقراطية الشفاف.
عندما يجتهد الذهن في محاولة استيعاب أزمات التحوّل الديموقراطي، تأتي مصر كأول هؤلاء العاقلين الذين ذهب فيهم قول شكسبير: "هناك عقل في الجنون". عقل يصدّعك بأن تكفّ عن التفكير، أو أن تكفّ عن الأمل بأن الوطن العربي، حينما ينتفض ثورة في سبيل الحرية، فهو ماضٍ إلى خير. وعقل يمسك بيدك على ألا تكتب حرفاً، أو تقول كلمة، حتى لو نهشت النار قلبك ووعيك، حتى لا يتم تدوينك في سِجِلّ المغضوب عليهم بتهمة دعم الحق. وعقل يقول لك لو كنت سياسياً، وبطرف يدك قبضة من الحكم وجاه السلطان، فحدّث بلسان مبين، ونفّذ غير ما تقول بيدٍ خفيّة.
وأنت، هنا، تقف في هذا المسمى وطناً عربياً واحداً، وكأنك تقف في بقعة ملعونة، أو كجزيرة "غوري" التي تأتي منها ضربات الشيطان. بل لا تكاد تستبين أنك تقف على اليابسة، أم على منطقة خفية، طُمرت وآلت إلى ما آلت إليه "أطلانطيس". وطنٌ نأمل أن يكون لنا فيه كل شيء، ثم لا نجد شيئاً غير ثمن الريح نقبضها، فتثير غباراً كثيفاً على معنى الحرية، فينتقل من بقعة إلى أخرى، غير مباركة.
 ثُرنا بصدق، لأنّنا حين باركناها في مصر، فهذا يعني إيماننا بها في تونس وليبيا واليمن وسورية، وموعودون بها في السودان. كدنا نصدق أن حلمنا كشباب اقترب، حتى جاءت صفعة 3 يوليو/ تموز، لتدمي، بلا رحمة، تجاويف هذا الكائن المأمول "الديموقراطية"، وليتفرّق، بعدها، مَن هتفوا للحرية، سائرين فوق أشواك الخوف لا يلمسون غير النهايات التعيسة التي تراءت أمامهم، تكمن بداخلها صور شهداء الحريات على مرّ العقود.
 أما ما هو مفترض أن يظل راسخاً كمبدأ لا يحيد، فهو الموقف الإنساني ضد النزعة العارمة للعنف والظلم، وتمجيد الموت المجاني، ونزعة الغوغاء للتدمير وشهوة القتل والانتقام المناقضة للروح الإنسانية. هذه معركة غريبة، مستلبة الأوصاف وغير متكافئة الأطراف، فيها شهداء من دون ساحة وغى، ومدافعين عن المواقع والسلطة من دون الدفاع عن الوطن، وعن حرية غيرهم في الحياة، فكيف يؤتمن على الحكم مَن يصادر الحرية؟

 
وكيف يؤتمن على الحياة مَن قطع "سير" نموّ الديموقراطية، ومنع عنها أوكسيجينها، وألقى بها معصوبة العينين، في موج من حميم. تحوّلنا الديموقراطي غير تحوّل سائر الأمم، فهو، هنا، يمشي بساق مبتورة تحت صفقات الهجير، ورائحة عرق الجلادين والمعارك الحاسمة والخاسرة. وهنا، يخرج من جراحاته، ليعود إلى جراح أخرى، يمسك أسنّة أقلامها المسمومة الكَتَبة المتزلّفون.
ومن البقعة غير المعلومة، تأتي أرواح منهكة، تبتسم من خلف القضبان، فلا تعلم هل تواسيها، أم هي من تواسيك. هؤلاء الشباب ليسوا في مسرحية محبوكة، أو قصيدة عن ناجي العلي، وإنّما حكاية واقعية، تدهش أكثر ممّا قد تستجلي النظر، لكنها تسترعي الانتباه بأنّ قوة بإمكانها الوقوف ضد كل الجبروت اللامحدود. هي قوة مستقاة من إيمانٍ بعدالة السماء قبل عدالة البشر، وبالصبر على الابتلاء قبل الصبر على نيل الحرية. وبالصمود عند قول "لا" قبل "نعم" الخنوع والخضوع الذي أدمنّاه، إلى درجة ركب الجبارون والمسيطرون والمتسلطون على أكتافنا، وأنزلوا أرجلهم مزهوّين بانتصاراتهم علينا. لم نرَ جزعاً، ولا تعبيراً عن الحزن، بل كانوا أكثر ثباتاً ممّن عبّروا بالنيابة عنهم. جزع الأهل، ولم يجزعوا، شق الأحباب الجيوب، ولم ينكّسوا رؤوسهم، أو يفقدوا وعيهم للحظة.
وطننا العربي جزءٌ منه غارقٌ في حربٍ على قدر كبير من البشاعة، والبقية تترى وسط منطقة حروبها، صامتة تغلي كالمرجل. وما يحدث الآن في مصر جزء من هذا كله، ومصر الآمنة "يخزُّ" نومها كابوس مريع، وحلم خسرت فيه أنّ الحب أسمى من الكراهية، والحكمة أسمى من الغضب، والسلام أرفع من الحرب. ويظل الفرق أنّ الذين يمارسون القتال، في ساحاته، ينتابهم إحساس بالمرارة، لكنهم يقاتلون ويخسرون أرواحهم بشرف، أما غيرهم، فلن يهنأوا بشرف الهزيمة، بل بزيف عار الانتصار.


 

8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.