سيناريوهات سياسية وعسكرية متوقعة لمعركة الحديدة

18 يونيو 2018
اقتحام مدينة الحديدة أكبر كلفة وكارثية على المدنيين(فرانس برس)
+ الخط -


لمعركة الحديدة في اليمن أهمية خاصة، إذ لم تثر أية معركة سابقة، بما فيها تدخل التحالف نفسه قبل 3 سنوات، الضجة التي ترافقها. وإذا أضفنا اجتماع مجلس الأمن اليوم، سيكون للمرة الأولى في تاريخه قد عقد ثلاث جلسات بشأن اليمن في ظرف أسبوع واحد. ويتزامن ذلك مع ارتفاع حدة التحذيرات الدولية من عواقب معركة الحديدة، واستمرار كل طرف في الحشد والاستعداد لمعركة قد تغيّر المشهد الراهن في اليمن، لكن هناك مسارات مستقبلية محدودة للمعركة وتداعياتها على مستقبل اليمن بشكل عام، سلماً وحرباً.

وظلت الحديدة والساحل الغربي لليمن، كمنفذ بحري هو الأقرب والأكثر أهمية لصنعاء، طريقاً لكل احتلال عرفه البلد منذ الاحتلال الحبشي (575) وحتى مغادرة العثمانيين اليمن في عام 1918. ومع اندلاع ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962 ضد الأئمة في صنعاء، كان الاتحاد السوفييتي قد انتهى من بناء ميناء الحديدة، وشق الصينيون طريق الحديدة - صنعاء، أول طريق معبدة في اليمن. ولولا بناء الميناء وشق الطريق لما تمكنت القوات المصرية في عهد الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، من الوصول إلى اليمن وإنقاذ ثورة سبتمبر، وربما كان مصير اليمن غير الذي نعرفه اليوم، إذ لا يمكن لأحد حكم صنعاء من دون السيطرة على ميناء الحديدة.

ومثل الساحل الغربي سبباً مباشراً لتوسع الحوثيين عسكرياً منذ عام 2014، فقد أقرت لجنة تحديد الأقاليم الفدرالية وخارطة اليمن الاتحادي، تقسيم الساحل الغربي الممتد من ذوباب إلى ميدي بين إقليمي الجند وتهامة، بينما حصرت إقليم آزال، الممتد بين ذمار جنوب صنعاء مروراً بالعاصمة وعمران وصولاً إلى صعدة، في مناطق جبلية مغلقة وشحيحة الموارد وكثيفة السكان، وهو ما رفضه الحوثيون والرئيس الراحل علي عبد الله صالح يومها. وطالب الحوثيون بضرورة إعادة التقسيم وإعادة صياغة الدستور الاتحادي، وقاموا بخطف أحمد بن مبارك، مدير مكتب الرئيس عبد ربه منصور هادي، وهو يحمل نسخته الأولية إلى اجتماع خاص لإقراره، ثم تطور الأمر بالتوالي لإخضاع هادي نفسه للإقامة الجبرية والسيطرة على دار الرئاسة، والإعلان الدستوري بتركيبة حكم جديدة دون هادي، ثم تدخل التحالف عسكرياً حتى الآن. والحديدة مدينة صغيرة نسبياً، لكنها كميناء تتمتع بأهمية بالغة لسكان شمال ووسط اليمن، باعتبارها المنفذ الأكبر للغذاء والوقود لقرابة ثلثي السكان. وقد ظلت معركة مؤجلة منذ بدء معارك الساحل الغربي في عام 2016، نتيجة رفض القوى الكبرى لها، إلا أن الإمارات استطاعت اختراق الموقف الدولي أخيراً، وحصلت على تصريح مشروط لخوضها. وأبرز ما أكد عليه وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، أخيراً هو استمرار فتح الميناء لتدفق المساعدات إلى اليمن، ولم يرفض المعركة كلياً، كما أن موسكو، التي حذرت من تداعيات المعركة، لم تذهب أبعد من ذلك، رغم قربها من الحوثيين نسبياً.

وفي ظل الجمود الذي مر به مسارا الحرب والسلام في اليمن، وتغير موازين القوى والتحالفات المحلية، خصوصاً بعد قتل الحوثيين لحليفهم صالح أواخر 2017، كانت هناك خيارات محدودة لتجنب المعركة في الحديدة، وهي الذهاب إلى تسليم الميناء إلى طرف ثالث، الأمر الذي رفضه الحوثيون حتى الأيام القليلة الماضية عندما قدموا موافقة على تسليمها إلى طرف ثالث (لم تتم تسميته)، ولكن بشروط لم يقبلها التحالف وهادي. ويهدف التحالف إلى تعريض الحوثيين لخسارة كبيرة تجبرهم على تقديم تنازلات ذات معنى في أية مفاوضات سلام مقبلة، ومن دون ذلك فإن معاركه لا معنى لها إلا المزيد من الخسائر البشرية والمادية في اليمن، ولهذا كانت الحديدة هي الهدف الذي يمكن أن يحد من سيطرة الحوثيين جغرافياً ومن قدرتهم على توفير عائدات مادية مهمة، وأيضاً من قدرة المناطق الواقعة تحت سلطتهم على توفير متطلبات الحياة الأساسية، بحكم أن اليمن يستورد قرابة 90 في المائة من حاجته الغذائية، إضافة إلى رمزيتها المعنوية العالية.

وجغرافية الحديدة الساحلية، والسهول الواسعة الممتدة شرقاً باتجاه السلسلة الجبلية، تجعل الحوثيين عرضة لأكبر قدر من الخسائر البشرية، بحكم فارق موازين القوى الذي يمثله طيران التحالف تحديداً، لكن ذلك لم يمنعهم من الاستمرار في مواجهة شرسة وغير متكافئة حتى الآن، ولا يبدو أن هناك أي توجه لهم للمضي في خيار آخر، فلا بد لهم من جعل المعركة أكثر كلفة قدر الإمكان، لما للحديدة من أهمية فعلية بالنسبة لهم، وحتى لا يخلقوا تصوراً بسهولة قضم الأراضي الأخرى الواقعة تحت سيطرتهم على أقل تقدير، ولو كانت نتيجة المعركة صفرية تماماً، ورغم كل الخسائر البشرية التي يمكن أن تتعرض لها الجماعة باستمرارها بالدفع بمقاتلين جدد لم يتم تدريبهم بشكل كافٍ إلى المعركة، حتى الآن يبدو أن المعركة تمضي لصالح التحالف والقوات اليمنية المتحالفة معه. وتجلى ذلك من خلال سرعة التقدم بين الخوخة والحديدة خلال الشهرين الأخيرين، ثم استئناف التقدم مطلع يونيو/ حزيران الحالي في محيط مدينة الحديدة مباشرة، تحت ضغط جلسة مجلس الأمن المقررة اليوم. ووصلت تلك القوات إلى حرم مطار الحديدة في طرفها الجنوبي، لكن ما بعد هذه الأراضي الواسعة وقليلة السكان، لن يكون التقدم بنفس الوتيرة، لأنها مناطق كثيفة السكان، فلا يوجد فاصل بين السور الشمالي للمطار وأحياء المدينة. وإن استمر الحوثيون في المواجهة فإن الخسائر ستكون أكبر من أي وقت مضى في الحرب اليمنية.



وبشكل عام يمكن أن تأخذ التطورات هناك مسارات عدة، تختلف باختلاف المواقف الدولية ومواقف الأطراف المتحاربة خلال الأيام القليلة المقبلة. المسار الأول أن تخرج زيارة المبعوث الأممي إلى اليمن، مارتن غريفيث، لصنعاء بموافقة حوثية على تسليم الحديدة إلى طرف ثالث، سواء كان الأمم المتحدة أو إحدى الدول غير المشاركة في التحالف العسكري ضدهم. وهذه الموافقة بالتأكيد سترافقها شروط الجماعة التي قد يرفضها التحالف مرة أخرى ما لم تكن أكثر مرونة من وجهة نظره. وإذا رأى المبعوث جدارة تلك الشروط بالنقاش فإنه سيتبناها في إحاطته إلى مجلس الأمن في جلسته اليوم، ولهذا فإن القوات الموالية للتحالف تسعى إلى تحقيق أكبر تقدم ممكن قبل هذا التاريخ، بحيث تكون أوراق الضغط بيد حكومة هادي في المفاوضات المقبلة أقوى، من جراء ما يسيطر عليه من الأرض. وإن تحقق هذا المسار فإنه سيجنب المدينة وسكانها مصيراً كارثياً قد يمتد إلى بقية سكان شمال اليمن، الذين يعتمدون في غذائهم اليومي على ما يدخل عبر الحديدة، لكنه سيكون بطيئاً وغير مضمون النتائج ومعرضاً للنقض وعدم الاستمرار بحكم انعدام الثقة بين الأطراف اليمنية المتحاربة، أي أنه مسار مؤقت قد يحدث بفعل ضغوط دولية تفتقر إلى حلول فعلية قابلة للاستمرار بالمقابل. كما أن موقف الحوثيين لا يبدو أنه تغيّر كثيراً منذ آخر زيارة للمبعوث الأممي قبل عشرة أيام، فقد استبق المتحدث باسم الحوثيين، محمد عبد السلام، زيارة غريفيث بتصريح دعاه فيه إلى تقديم حلول والخروج من دائرة حمل الرسائل، في إشارة إلى شروط إماراتية يحملها الرجل مقابل وقف التقدم في الحديدة. واستبعد عبد السلام إمكانية حسم المعركة من قبل التحالف، وهذا الموقف تكرّر تقريباً في الخطابات الأخيرة لزعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، الذي استمر بالدعوة لحشد المقاتلين إلى الساحل الغربي من دون إبداء أي استعداد للتراجع.

المسار الثاني يتمثل بالاستمرار في المعركة واقتحام المدينة، ربما بعد حصار محكم من قبل التحالف، لقطع الإمدادات عن الحوثيين وإرغامهم على الانسحاب من المدينة من دون شروط. وهذا المسار أكبر كلفة وكارثية على المدنيين، وأطول زمناً قبل أن يحقق النتائج المرغوبة للتحالف، إذ لن يتوقف الحوثيون عن قصف خصومهم انطلاقاً من مناطق كثيفة السكان، ولن يتوقف التحالف عن قصف الحوثيين في المناطق السكنية، ولو اتخذ الأمر طابع حرب الشوارع فإن الكلفة والكارثة ستكونان غير مسبوقتين، لأنها ستطول دون آفاق واضحة. وفي هذا المسار لن يتمكن الحوثيون من قصف الحديدة بالصواريخ، لأن قواتهم ستكون منتشرة داخلها، بحيث يصعب تجنيبها آثار القصف.

المسار الثالث يتمثل في تحقيق اقتحام نوعي وسريع للسيطرة على المدينة بأقل الأضرار، عبر إنزال بحري وجوي وقصف مكثف لمناطق تمركز الحوثيين، وهذا المسار يحتاج حتماً إلى مساعدة أميركية استخباراتية وتقنية وربما تدخل مباشر، وهو أمر لم توافق واشنطن عليه حتى الآن رغم طلب الإمارات منها، وإذا غيرت موقفها فإن المعادلة التي تحكم علاقتها بروسيا في الملف السوري قد تتغير، ولن تصمت موسكو عن ذلك رغم محدودية إمكانية تدخلها عملياً. وفي حال تحقق هذا المسار فإن الحديدة لن تصبح لقمة سائغة للتحالف، إذ توفر سلسلة الجبال الشرقية للحديدة بيئة مؤاتية للحوثيين لاستهداف المدينة والميناء وبوارج التحالف بالصواريخ بشكل مستمر، مع هجمات مباغتة وسريعة لاستنزاف قوات التحالف البرية. وهذا يعني أن تكون السيطرة على الحديدة بداية لنوع جديد من المعارك وليس نهاية للحرب، إذ سيكون أمام التحالف إما تحمل الخسائر التي سيتكبدها من هجمات الحوثيين وإما أن يوسع المعركة لتأمين الحديدة بالسيطرة على الجبال الشرقية، أو بمعنى آخر بدء معركة صنعاء التي تفصلها عن الحديدة تلك الجبال الوعرة.

المسار الأول وحده يضمن استمرار تدفق الغذاء والدواء لسكان شمال اليمن عموماً. أما المساران الأخيران، فسيؤديان إلى إغلاق الميناء وتوقف وصول الغذاء والوقود والدواء لثلثي السكان. كذلك سيمثل استئناف عمل الميناء بعد انتهاء المعركة وبأسرع وقت ممكن تحدياً أساسياً للتحالف والمجتمع الدولي. وقد سعت السعودية والإمارات إلى طمأنة المجتمع الدولي حول التداعيات الإنسانية لمعركة الحديدة، إذ أعلنتا، بالتزامن مع انطلاق المعركة، الاستعداد لإطلاق عملية إغاثة للساحل الغربي، عبر جسر جوي وآخر بحري، مع استعدادات مسبقة لإعادة إصلاح معدات الشحن والتفريغ في الميناء، وبهذا يبدو أنهما بصدد المضي في المعركة حتى الأخير.

من جهة أخرى، وفي كل المسارات، تمثل الألغام البحرية والبرية التي زرعها الحوثيون لإعاقة تقدم التحالف عائقاً جوهرياً أمام إعادة تدفق الواردات إلى اليمن عبر ميناء الحديدة، إذ ستمتنع شركات الشحن عن المخاطرة بالتوجه إليه. وأمام هذا الاحتمال، أعلنت وزارة الدفاع الفرنسية وضع خطط للمساعدة في نزع الألغام من الميناء ومحيطه البحري "لدوافع إنسانية". وفي حال فشل مسار السلام، ونجاح أي مسار عسكري في الحديدة، فإن أمام التحالف تحدٍ من نوع آخر، هو تقديم نموذج مختلف عما قدمه في عدن، وإلا فإن الحاضنة الشعبية للشرعية لن تساعد على أي تقدم جديد خارج الحديدة. وفي كل الأحوال، فإن معركة الحديدة إن اقتصرت على المسار العسكري لن تحقق هزيمة نهائية للحوثيين بل هزيمة صعبة ومكلفة، خصوصاً لو تحقق المسار الثاني، وما لم تشكل ضغطاً نحو السلام فستشكل توجهاً إجبارياً نحو توسيع جبهات القتال في الجبال الوعرة والمناطق كثيفة السكان كمرحلة جديدة من الحرب، وسيكون الحديث عن السلام مجرد إسقاط واجب بلا أفق لسنوات مقبلة.