سورية والنظام الإسلامي

13 مارس 2018
+ الخط -
تقترب الثورة السورية من دخول عامها الثامن مصحوبة بشكوك كثيرة، بشأن استمرارها وإمكانية نجاحها مستقبلا، نتيجة تعدد التدخلات والاحتلالات الخارجية، ولندرة المظاهر الشعبية الثورية داخل سورية. إلا أن استمرار، بل تدهور، الظروف والأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي دفعت جزءا كبيرا من السوريين نحو الاحتجاج والتظاهر أساسا، (أي نحو المسار الثوري) يعتبر المؤشر الأهم على أننا في خضم مرحلة ثورية طويلة الأمد، قد تخطئ وتضل الطريق أحياناً، وقد تتراجع وتبهت أحياناً أخرى، إلا أنها لا بد ستعود وبقوة إلى مسارها الثوري الصحيح، عندما تنجح في تجاوز أخطاء الماضي القريب وعقباته.
وهو ما يحيلنا إلى الحديث عن أحد الأخطاء المرتبطة بالثورة، والمتمثلة في سعي المعارضة السورية الأكثر تنظيماً ودعماً (الإخوان المسلمون والائتلاف والمجلس الوطني) إلى فرض شكل ونمط حكم قسري بديل عن نظام الأسد، في الوقت الذي تهمل فيه خوض أي نقاشٍ، يهدف إلى تحديد ركائز البديل القادر على تحقيق أهداف السوريين وآمالهم. لتختصر غالبية هذه القوى حديثها عن النظام البديل بمحدّدات عامة، مثل حرية التعبير، والتعدّدية السياسية، والنظام الديمقراطي، وأحياناً بترويج النظام الفيدرالي حلا مقبولا للمسألة الكردية. وهو ما لا يرقى إلى تحديد طبيعة النظام بوضوح، كما لا يكفي للإجابة عن تساؤلات غالبية السوريين، لاسيما الحياديين والمترددين. وبالموازاة مع هذا التهميش المقصود للحوار السوري بشأن مقومات النظام البديل، نشهد سعي المعارضة وداعميها الإقليميين إلى فرض نظام حكم إسلامي في جميع المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد. وهو ما كان نتيجة القدرات المالية والعسكرية التي امتلكتها المجموعات الإسلامية، ونتيجة حاجة المجتمعات المحلية لهذه القدرات، لتتمكن من الصمود والتصدي لآلة القتل الأسدية.

ويعكس سعي المعارضة المنظمة إلى تأسيس نمط إسلامي بديل عن نظام الأسد تناقضاً صارخاً بين أقوالها وأفعالها، كما يعكس انحطاطها وكذبها السياسي، نتيجة استغلال حاجات السوريين أولاً، وكذب ادعاءاتها ثانياً. حيث تشير مواقف كثيرة لجماعة الإخوان المسلمين والائتلاف والمجلس الوطني المعلنة إلى موافقتها ودعوتها إلى إقامة نظام حكم مدني، لا إسلامي، بديلاً عن نظام الأسد القائم حالياً، في الوقت الذي عملت وتعمل فيه ميدانياً على فرض أنماط الحكم الإسلامية الأكثر تشدّداً وحزماً. الأمر الذي دفع سوريين عديدين إلى رفض هذا النمط ورفض تسلط الأحزاب والقوى والجماعات الإسلامية، وهو ما أدى إلى نفور الفئات المترددة والرمادية من الثورة عموماً، وهو ما صب في صالح الأسد، وإلى تراجع مشاركة شرائح اجتماعية وسياسية مهمة وكبيرة من جمهور الثورة، ممن فقدوا الإيمان بدورهم في صناعة مستقبل سورية، على ضوء تجارب الحكم الإسلامي القائمة اليوم، والتي لا تختلف كثير من ممارساتها عن ممارسة الأسد الاستبدادية والإجرامية، وإن اختلفت الإمكانات فيما بينهما. كما عبرت غالبية المناطق الخاضعة لسيطرة القوى الإسلامية مراراً وتكراراً عن رفضها ممارسات هذه القوى الاستبدادية والقمعية والاقتصادية، من قبيل فرض نمط حياة دينية معين، واعتقال نشطاء الثورة عموماً، والعلمانيين خصوصاً، وتكريس استغلال الحاجات الإنسانية الرئيسية، وتشريع المتاجرة بها. وهو ما شكل صفعةً قويةً لجميع القوى التي عملت على تفكيك المجتمع السوري، طائفياً وإثنياً وعرقياً، كي تدّعي أن النظام الإسلامي هو الممثل للغالبية الشعبية السورية على اعتبارها إسلامية سنية، هذه الغالبية المفترضة، والتي عبر جزء كبير منها عن رفض هذا النمط من الحكم، وهو ما يعكس تجاهل المعارضة السورية المنظمة مجمل آراء السوريين، وفي مقدمتهم المسلمون، في مجمل القضايا السورية، وفي مقدمتها طبيعة نظام الحكم المنشود وشكله.
لذا لا يمكن التقليل من خطورة جميع ممارسات تلك المعارضة السورية المنظمة، سواء الإعلامية أو الميدانية، والتي عملت، ومنذ اليوم الأول للثورة، على تشويه المسار الثوري وحرفه، مروجة مقولة "ثورة سنية تواجه نظاماً علوياً وأحياناً علمانياً"، وفقاً لحاجاتها التعبوية، متجاهلة أن العلوية صفة طائفية للنظام، يستحيل جمعها مع الطبيعة العلمانية لأي نظام كان، وهي في الحقيقة مخطئة بالصفتين.
لقد شكل وصم الثورة بالسنية مقدمةً لاستدعاء جميع القوى السنية الممكنة، بما فيها الجهاديون والمتطرفون والسلفيون والوهابيون، وغيرهم كثير من الأنماط الدخيلة على الشعب السوري، الأمر الذي سهل لاحقاً سيطرة هذه القوى المتطرّفة والمتشددة على غالبية المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، فمجمل ممارسات المعارضة السورية المنظمة كانت وما زالت مدروسة
ومقصودة خدمة لغاياتها فقط، ومن دون أي اعتبار لغايات السوريين، بمن فيهم مؤيدو نمط الحكم الإسلامي، ولاسيما النموذج التركي، على الرغم من أن النظام المسؤول عن بناء تركيا الحديثة ديمقراطي علماني، لتستغل المعارضة ميول هذه الشرائح والفئات، كما استغلت حاجات فئات أخرى من السوريين، من أجل فرض مصالحها وقواها.
لذا لا نتوقع تغييراً أو تبديلاً في سياسة المعارضة السورية، بقدر ما نتوقع من بعض مناصري نمط الحكم الإسلامي، ولاسيما العقلانيين والديمقراطيين منهم، مراجعة الحيثيات السورية، والاستفادة من التجربة الماضية، لاسيما فيما يخص تداخل الدين بالسياسة، فردياً وجماعياً، وانعكاسات هذا التداخل على وحدة المجتمع وتماسكه. فقد عزّزت التجربة الماضية من انقسام الشعب السوري طائفياً وسياسياً، فضلاً عما لمسناه من رفض السوريين فرض نظام حكم ديني، بمن فيهم أتباع الدين نفسه أي المسلمون، وهو ما يفيد بأن الانتماء الديني مغاير في حالات كثيرة، إن لم نقل في غالبية الحالات عن الانتماء السياسي. واخيراً، وكجزء من فهمنا اللعبة الديمقراطية المحلية، لابد من الانصياع لإرادة الغالبية السورية السياسية، التي أوضحت رفضها نظام الحكم الإسلامي، سواء عبر تقوقعها على مقربة من نظام الإجرام الحاكم اليوم، بدلاً من العمل والاصطفاف مع المجموعات والقوى المدنية الثورية، أو عبر الانسحاب من العمل السياسي والميداني نحو أشكال نشاط أخرى، أو عبر التظاهر والاحتجاج والرفض بشكل واضح ميدانياً وإعلامياً وفقاً للقدرات المتاحة.
إذاّ لا توحي المؤشرات الاجتماعية والسياسية السورية بقدرة النظام الإسلامي على حكم سورية والشعب السوري بالوسائل الديمقراطية، كما لا توحي تجارب الحكم الإسلامي الحديثة بقدرة هذا النمط على سد حاجات الشعوب وتطلعاتها، من حماية وحدة المجتمع والأرض، إلى القدرة على فرض العدالة الاجتماعية، والحرية السياسية والعقائدية، والمساواة الاقتصادية. وهو ما يفرض علينا البحث جدياً عن طبيعة النظام السياسي والاقتصادي القادر على تلبية رغباتنا وتطلعاتنا في وطن مستقل ومتطور، يحمي مواطنيه، ويضمن لهم مستقبلا زاهرا.
75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.