الثّالثة فجراً في ميناء "بوهارون"، هذا المرفأ العتيق الواقع على بعد 50 ميلاً غربي العاصمة الجزائريّة، تعود إليه قوارب الصّيد بعد ليلة كاملة في عرض البحر، أحاديث التجّار الذين صادفهم "العربي الجديد" توحي بوفرة السّمك، كلٌّ أخذ حصّته - مسبقاً - والكلّ راضٍ، هنا تبدأ المضاربة.
رست القوارب تباعاً على المرفأ، آخر مهمّة للصيّادين الآن هي إنزال حمولة السّمك، صناديق يتلقّفها التجّار كأنّما كُتِبت أسماؤهم عليها، الكلّ هنا يعرف ما يريد وكميّةَ ما يأخذ، على رأس هؤلاء أصحاب مساحات البيع في الميناء، محتكرون تقفز مع جشعهم نسبة الأسعار إلى أكثر من 400 %، وفقاً لأحد الباعةِ الصّغار.
"ر.عدّة"، يضطرّ يوميّاً إلى شراء ما يكفيه ليملأ عربته المتنقّلة، يقول: أعرف أنّ سعر السّمك العاديّ، لا يتعدّى 1.30 دولار بما يعادل تقريباً 104 دنانير جزائرية للكيلوغرام الواحد، لكنّه يُباع هنا بـ 6.25 دولار بما يعادل تقريباً 500 دينار جزائري، ونحن بدورنا نعيد بيعَه بسعر أغلى لنعوّض الخسارة".
يضيف: الغلاء الذي ترونه اليوم نتيجة حتميّة لتواطؤ أصحاب قوارب الصيّد مع إدارة الميناء، ولا علاقة للأمر بسوء الأحوال الجويّة، بدليل أنّنا في عزّ فصل الصّيف.
ساعة واحدة كانت كافية لإنزال حمولة القوارب الثّلاثين، الصيّادون المنهكون غادروا الميناء، ولم يبق إلّا ربَابين سفن الصّيد، يَعُدّون رُزَم أوراقٍ من فئات ماليّة مختلفة، بعد أن سلّموا حصاد اللّيلة.
الزّبائن بدأوا يتوافدون تباعاً على الميناء مع السّاعات الأولى لطلوع الشّمس، يتقدّمهم أصحاب المطاعم المجاورة، هؤلاء عملاء دائمون، يعرفون التجّار والتّجارُ يعرفونهم، "الحاج مروان" واحد من ملّاك المطاعم في ميناء "بوهارون"، مرّ على وجوده هنا أكثر من ثلاثين سنة قضاها في تحضير أشهى الأطايب البحريّة، ولجودة ما يقدّم مطعمُه، يأتيه الزّبائن من كلّ حدب وصوب.
"العربي الجديد" سأله عن رأيه في الأسعار الحالية للسّمك وعمّا إذا هو راضٍ عن الأمر، بعد تململ قال: صحيح أن أسعار الأسماك هنا قد سجّلت ارتفاعاً ملحوظاً في ظرف 5 سنوات فقط، ولكن كصاحب مطعم، هذا لا يؤثّر على نشاطي.
بارونات الصّيد
"ط.زوبيري"، صيّاد يعمل لدى صاحب سفينة صيد هي الكبرى في الميناء، روى لـ"لعربي الجديد" تفاصيل الرّحلات البحريّة اليوميّة، مشيراً إلى أن قصّة الغلاء الفاحش تبدأ في عرض البحر بعد إلقاء الربّان نظرة على "السونار".
البحر الهادئ، والأمطار الخفيفة، يكفيان لِيُنبِئان أنّ حصة اليوم وافرة، يقول "زوبيري"، لكن الحال لم يعد كذلك منذ زمن، إذ يُجبرنا صاحب القارب على ملءِ 30 صندوقاً لا أكثر، من مختلف ما جادت به الشباك في اللّيلة الواحدة، مع أن الصّيد مسموح في مثل هذا الوقت من السّنة.
بل وأكثر من ذلك، أحيانا كثيرة يجود البحر بأطنان من السّمك في زمن الذّروة، لمّا نسحب الشباك، ولأنّ الكميّات كبيرة، لا يبقى السّمك حيّاً مدّة طويلة، فيضطرّنا ربّ العمل إلى رمي ما زاد عن الكميّة التي يريد في البحر ميتاً، فقط حتى يتحكّم هو وثلاثة من أمثاله، في أسعار سوق السّمك هنا في الميناء.
رست القوارب تباعاً على المرفأ، آخر مهمّة للصيّادين الآن هي إنزال حمولة السّمك، صناديق يتلقّفها التجّار كأنّما كُتِبت أسماؤهم عليها، الكلّ هنا يعرف ما يريد وكميّةَ ما يأخذ، على رأس هؤلاء أصحاب مساحات البيع في الميناء، محتكرون تقفز مع جشعهم نسبة الأسعار إلى أكثر من 400 %، وفقاً لأحد الباعةِ الصّغار.
"ر.عدّة"، يضطرّ يوميّاً إلى شراء ما يكفيه ليملأ عربته المتنقّلة، يقول: أعرف أنّ سعر السّمك العاديّ، لا يتعدّى 1.30 دولار بما يعادل تقريباً 104 دنانير جزائرية للكيلوغرام الواحد، لكنّه يُباع هنا بـ 6.25 دولار بما يعادل تقريباً 500 دينار جزائري، ونحن بدورنا نعيد بيعَه بسعر أغلى لنعوّض الخسارة".
يضيف: الغلاء الذي ترونه اليوم نتيجة حتميّة لتواطؤ أصحاب قوارب الصيّد مع إدارة الميناء، ولا علاقة للأمر بسوء الأحوال الجويّة، بدليل أنّنا في عزّ فصل الصّيف.
ساعة واحدة كانت كافية لإنزال حمولة القوارب الثّلاثين، الصيّادون المنهكون غادروا الميناء، ولم يبق إلّا ربَابين سفن الصّيد، يَعُدّون رُزَم أوراقٍ من فئات ماليّة مختلفة، بعد أن سلّموا حصاد اللّيلة.
الزّبائن بدأوا يتوافدون تباعاً على الميناء مع السّاعات الأولى لطلوع الشّمس، يتقدّمهم أصحاب المطاعم المجاورة، هؤلاء عملاء دائمون، يعرفون التجّار والتّجارُ يعرفونهم، "الحاج مروان" واحد من ملّاك المطاعم في ميناء "بوهارون"، مرّ على وجوده هنا أكثر من ثلاثين سنة قضاها في تحضير أشهى الأطايب البحريّة، ولجودة ما يقدّم مطعمُه، يأتيه الزّبائن من كلّ حدب وصوب.
"العربي الجديد" سأله عن رأيه في الأسعار الحالية للسّمك وعمّا إذا هو راضٍ عن الأمر، بعد تململ قال: صحيح أن أسعار الأسماك هنا قد سجّلت ارتفاعاً ملحوظاً في ظرف 5 سنوات فقط، ولكن كصاحب مطعم، هذا لا يؤثّر على نشاطي.
"مروان" ذكر نصف الحقيقة، فصندوق "الجمبري الملكي" ذي الـ 6 كيلوغرامات مثلاً، والذي يبتاع منه 4 إلى 6 صناديق يوميّاً، بسعر 189 دولاراً للصّندوق الواحد بما يعادل 15100 دينار جزائري، يعوّضه أضعافاً لدى تقديمه في أطباق المشاوي البحريّة، أو في صينيّات "البايلا".
توضيحاً لنصف الحقيقة الآخر فإن سعر الكيلو الواحد من "الجمبري الملكيّ"، والمقدّر عند الباعة بـ 32 دولاراً بما يعادل تقريباً 2557 ديناراً جزائريّاً، يتوزّع في المطاعم على 8 صحون، وكلّ صحن يُحسب بـ 19 دولاراً بما يعادل 1518 ديناراً جزائريّاً، مع العلم أنّ هذا ينسحب على شتّى الأنواع الأخرى من حبّار، وأخطبوط، وجراد بحر، وبلح بحر، والسّمك الأحمر أو ما يصطلح عليه هنا "الرّوجي".
توضيحاً لنصف الحقيقة الآخر فإن سعر الكيلو الواحد من "الجمبري الملكيّ"، والمقدّر عند الباعة بـ 32 دولاراً بما يعادل تقريباً 2557 ديناراً جزائريّاً، يتوزّع في المطاعم على 8 صحون، وكلّ صحن يُحسب بـ 19 دولاراً بما يعادل 1518 ديناراً جزائريّاً، مع العلم أنّ هذا ينسحب على شتّى الأنواع الأخرى من حبّار، وأخطبوط، وجراد بحر، وبلح بحر، والسّمك الأحمر أو ما يصطلح عليه هنا "الرّوجي".
في التّرتيب الثّاني للزّبائن "الأوفياء"، مموّلو المدن الدّاخليّة بشتّى أصناف السّمك، هؤلاء يأخذون عادة البيضاء منها فقط، لسهولة تخزينها وعدم قابليتها التّلف سريعاً، بفعل خلوّها من الدّماء.
اقتربنا من أحد هؤلاء، لوحة شاحنته كانت تحمل ترقيم ولاية "سطيف" الشرقيّة، وهو يهمّ بتعبئة المركبة المزوّدة بالمبردات، أخذنا رأيه هو الآخر، لم يُخفِ تذمّره من الأسعار "المبالغ فيها" حسب رأيه، لكنّه أردف: سطيف مدينة حركتها التّجارية نشيطة جدّاً، والطّلب على الأسماك مرتفع نسبيّاً على طول العام، هناك مِن المزوّدين مَن يتّجه إلى السّواحل الشّرقية على غرار: "عنّابة، وسكيكدة، والقلّ" ليأتي بالأسماك، ومع ذلك تنفد الكميّات في أقلّ من أسبوع، مشيراً إلى أن الطّلب هو ما يحدّد الأسعار، وهو ما يجعله يقطع مسافة 1100 ميل مرّتين أسبوعيّاً.
اقتربنا من أحد هؤلاء، لوحة شاحنته كانت تحمل ترقيم ولاية "سطيف" الشرقيّة، وهو يهمّ بتعبئة المركبة المزوّدة بالمبردات، أخذنا رأيه هو الآخر، لم يُخفِ تذمّره من الأسعار "المبالغ فيها" حسب رأيه، لكنّه أردف: سطيف مدينة حركتها التّجارية نشيطة جدّاً، والطّلب على الأسماك مرتفع نسبيّاً على طول العام، هناك مِن المزوّدين مَن يتّجه إلى السّواحل الشّرقية على غرار: "عنّابة، وسكيكدة، والقلّ" ليأتي بالأسماك، ومع ذلك تنفد الكميّات في أقلّ من أسبوع، مشيراً إلى أن الطّلب هو ما يحدّد الأسعار، وهو ما يجعله يقطع مسافة 1100 ميل مرّتين أسبوعيّاً.
"السّردين" ...يفضح المحتكرين
تزخر الجزائر بشريط ساحلي على طول 1200 ميل، تتوزّع عليه 14 ولاية تطلّ على الأبيض المتوسّط، معظم سكّانها من ممتهني الصّيد البحريّ، وهم أرباب أٌسرٍ مِن ذوي الدّخل المحدود.
إلى وقت قريب لم يغب يوماً سمك "السّردين" عن موائد هؤلاء، يجدون فيه العزاء عندما ترتفع أسعار الخضار والفواكه، وحتّى البقوليّات أحياناً.
"بوهارون"، ولأنّ ميناءها هو ثاني أكبر الموانئ الصيديّة في الجزائر "مساحةً وإنتاجاً"، بعد ميناء "بني صاف" في ولاية "عين تموشنت" في الغرب الجزائريّ، فتسليط بعض الضّوء على واقعه، يعطي لمحة عمّا يجري في السّاحل عموماً.
"ثمن "السردينة" هنا لا يقلّ عن 600 دينار جزائريّ، وهو ما يعادل 7 دولارات ونصف للكيلو الواحد، ثمن باهظ يستحيل معه إقبال الجزائريّ البسيط على شرائه، إلّا إذا قام بصيد ما يريد بنفسه"، قالها أحد العاملين في ترقيع شباك الصيّد.
شابّ آخر لفته وجود "العربي الجديد" في المرفأ أضاف: لا يأتي هنا إلّا الميسورون، ميناء "بوهارون" أضحى منذ قرابة 5 سنوات قبلة الأغنياء فقط، لا مكان هنا لمحدودي الدّخل".
تزخر الجزائر بشريط ساحلي على طول 1200 ميل، تتوزّع عليه 14 ولاية تطلّ على الأبيض المتوسّط، معظم سكّانها من ممتهني الصّيد البحريّ، وهم أرباب أٌسرٍ مِن ذوي الدّخل المحدود.
إلى وقت قريب لم يغب يوماً سمك "السّردين" عن موائد هؤلاء، يجدون فيه العزاء عندما ترتفع أسعار الخضار والفواكه، وحتّى البقوليّات أحياناً.
"بوهارون"، ولأنّ ميناءها هو ثاني أكبر الموانئ الصيديّة في الجزائر "مساحةً وإنتاجاً"، بعد ميناء "بني صاف" في ولاية "عين تموشنت" في الغرب الجزائريّ، فتسليط بعض الضّوء على واقعه، يعطي لمحة عمّا يجري في السّاحل عموماً.
"ثمن "السردينة" هنا لا يقلّ عن 600 دينار جزائريّ، وهو ما يعادل 7 دولارات ونصف للكيلو الواحد، ثمن باهظ يستحيل معه إقبال الجزائريّ البسيط على شرائه، إلّا إذا قام بصيد ما يريد بنفسه"، قالها أحد العاملين في ترقيع شباك الصيّد.
شابّ آخر لفته وجود "العربي الجديد" في المرفأ أضاف: لا يأتي هنا إلّا الميسورون، ميناء "بوهارون" أضحى منذ قرابة 5 سنوات قبلة الأغنياء فقط، لا مكان هنا لمحدودي الدّخل".
بارونات الصّيد
"ط.زوبيري"، صيّاد يعمل لدى صاحب سفينة صيد هي الكبرى في الميناء، روى لـ"لعربي الجديد" تفاصيل الرّحلات البحريّة اليوميّة، مشيراً إلى أن قصّة الغلاء الفاحش تبدأ في عرض البحر بعد إلقاء الربّان نظرة على "السونار".
البحر الهادئ، والأمطار الخفيفة، يكفيان لِيُنبِئان أنّ حصة اليوم وافرة، يقول "زوبيري"، لكن الحال لم يعد كذلك منذ زمن، إذ يُجبرنا صاحب القارب على ملءِ 30 صندوقاً لا أكثر، من مختلف ما جادت به الشباك في اللّيلة الواحدة، مع أن الصّيد مسموح في مثل هذا الوقت من السّنة.
بل وأكثر من ذلك، أحيانا كثيرة يجود البحر بأطنان من السّمك في زمن الذّروة، لمّا نسحب الشباك، ولأنّ الكميّات كبيرة، لا يبقى السّمك حيّاً مدّة طويلة، فيضطرّنا ربّ العمل إلى رمي ما زاد عن الكميّة التي يريد في البحر ميتاً، فقط حتى يتحكّم هو وثلاثة من أمثاله، في أسعار سوق السّمك هنا في الميناء.
هؤلاء .. يضيف الصيّاد، لا يكتفون بذلك، ففي موسم الشّتاء حيث يتوقّف نشاط الصّيد أسابيع، لسوء الأحوال الجويّة، يُخرِج "البارونات" ما تمّ تخزينه في المجمّدات، لبيعه في وقت النّدرة على أنّه سمك طازج.
أحد أعضاء "اللّجنة الوطنيّة للصيّادين، رفض نشر اسمه، قال في اتّصال بـ"العربي الجديد": إنّ ضبط سعر السّمك قد خرج من يد الوزارة الوصيّة، فبات الغلاء الفاحش سيّد الموقف بعد أن عجزت هذه الأخيرة في ردع المضاربين.
يضيف: بعد أن عجزنا، كهيئة مراقبة، في لفت انتباه السّلطات إلى تمادي "لوبي الأسماك" في استنزاف جيوب الغلابة، والثروة السّمكية على حدّ السّواء، بقي أمام المستهلك الجزائريّ خيار واحد من شأنه إجبار عصابات الصّيد على تخفيض الأسعار" في إشارة منه إلى المقاطعة.
ومع أنّ الجزائريّ لا يأكل السّمك إلا بمعدّل 5 كيلو في العام، حسب آخر تقرير صادر عن "المنظّمة العربيّة لجمعيّات المستهلكين"، إلّا أنّ ارتفاع الأسعار مستمرّ، وعائدات هذه الثّروة، لا يزال يستفيد منها مُلّاك القوارب من دون غيرهم.
يضيف: بعد أن عجزنا، كهيئة مراقبة، في لفت انتباه السّلطات إلى تمادي "لوبي الأسماك" في استنزاف جيوب الغلابة، والثروة السّمكية على حدّ السّواء، بقي أمام المستهلك الجزائريّ خيار واحد من شأنه إجبار عصابات الصّيد على تخفيض الأسعار" في إشارة منه إلى المقاطعة.
ومع أنّ الجزائريّ لا يأكل السّمك إلا بمعدّل 5 كيلو في العام، حسب آخر تقرير صادر عن "المنظّمة العربيّة لجمعيّات المستهلكين"، إلّا أنّ ارتفاع الأسعار مستمرّ، وعائدات هذه الثّروة، لا يزال يستفيد منها مُلّاك القوارب من دون غيرهم.