16 فبراير 2020
سرديات سورياليّة عن "داعش"
في لهفة المشتاق، ولوعة الخائف، ضممتها بحرارةٍ وقبلتها. فنظام الأسد، حرمني، وسائر السوريين في المغترب أو المنفى الإجباري، لقاء الأهل والأحبة. لم تعد تلك الفتاة شابة صغيرة كما تركتها قبل أعوام. كبرت وتزوجت وأنجبت. أتذكّر، بغصةٍ، عرسها الذي تزامن مع اقتحام الجيش مدينتي. آنذاك، أُوقف زوجها القادم من الريف الحموي على حواجز الجيش، المنتشي بانتصاره على المتظاهرين العزل، واحتجزه ساعاتٍ، قبل أن يطلق سراحه، بعد حصوله على تصريحٍ بدخول المدينة المحاصرة. في بلادي، وبعد أن شق الألم دربه الطويل، لم يعد للفرح مكان ولا رمزيّة، شطبت الأفراح والأعراس من قوائم السوريين، وحلت الجنازات مكانها، لكن الأمل لم ينقطع.
"لقمة مغمسة بالدم" ..هكذا أخبرتني، عندما غادرت مكان إقامتها، الآمن نسبياً، لتلتحق بزوجها في إحدى مدن الشمال الشرقي، حيث يعمل هناك. كان ذلك في منتصف عام 2012، عندما كان الريف الحلبيّ ملتهباً بالقذائف والحمم. بعد حين، اعتادت على أصوات الطائرات، وأصبحت خبيرةً في أنواعها وفي قذائفها. خبرت الجيش الحر، والفصائل الإسلاميّة، وجبهة النصرة، فجميعهم استقروا في منطقتها، قبل أن يأتي "داعش"، وينشئ إماراته الإسلاميّة مطلع 2014.
وبخلاف جبهة النصرة التي مثلت تجديداً في فكر "القاعدة" وممارساتها، لا يمكن للمتابع أن يتجاهله، سلك تنظيم داعش سلوكًا مغايرًا، إذ بدأ التوسع في المناطق "المحررة"، واصطدم بكتائب الجيش الحر والفصائل الإسلامية، عندما حاول فرض البيعة والولاء عليها. كما أوغل في الانتهاكات في حق المدنيين، كالجلد والرجم والذبح، بذرائع واهية، من قبيل مخالفة الشريعة، أو التعامل مع الجيش الحر، والائتلاف الكافر. وأمام تزايد الانتهاكات، ومحاولاتها السيطرة على طرق الإمداد، ولاسيما معبر باب الهوى، دخلت فصائل إسلامية وجبهة النصرة وكتائب من الجيش الحر مواجهة ضد تنظيم داعش، وطردته من معظم مناطق سوريا، باستثناء مدينة الرقة التي اتخذها عاصمة لدولته، وريف حلب الشرقي بمدنه الرئيسيّة الثلاث، جرابلس ومنبج والباب.
كباحثٍ مهتم بقضايا الحركات الجهاديّة، تجاهلت مشاعري وأشواقي، وفكرت فوراً في إجراء شهادةٍ عن سلوكيات "داعش"، وطريقة إدارة جماعات هذا التنظيم المجتمعات المحليّة التي توجد ضمنها. وجهت لها أسئلتي، وبدأت الاستماع:
يغطون أثداء البقر والماعز، ويحفظونها لكي لا تظهر عورتها، فتفتن الناس. يطلبون الفتاة التي تعجبهم لزواج الدولة، فيذهبوا إلى ولي أمرها، ويعطونه مبلغاً (400 ألف ليرة)، ويتزوجها أحد رجالهم شهراً، أو ربما أكثر، ويتركها عندما يطلبه الواجب الجهادي. غالبيتهم أجانب (آسيويون وشيشان) لا يتكلمون العربيّة، ثيابهم رثة ووسخة، شعورهم طويلة وغير مهذبة، متزوجون من سوريات وعربيات جندوهن لمراقبتنا. دخلت، يوماً، علينا إحداهن، ونحن نحفظ الأطفال القرآن في المسجد. صرخت في وجهنا طالبةً الكف عمّا سمته التعليم الزائف للدين، وأن نبدأ في تعليم الناس أصول دينهم الصحيحة. لم نفهم المقصود، فدعتنا في اليوم التالي لأول درس. وياللمفاجأة عندما كان عنوانه: الزواج في الإسلام والسنة. روايات سمعتها أول مرة، على الرغم من أنني واظبت على دروس المعاهد الدينية منذ صغري. خجلنا كثيراً، ولم نعرف طريقةً لكي ننهي درسها، وننقذ أنفسنا من أَسئلة الأطفال الصغار المحرجة. طلوا جدران المدارس والمقرات والمباني الحكوميّة بالأسود تيمناً بالكعبة. الإشادة بالدولة الإسلامية وبأمير المؤمنيين البغدادي، حفظه الله، واجبة، عند تسلم الخبر، والغاز، والمازوت. إياك وأن تتلفظ بكلمة ( داعش)، فعقابها مائة جلدة مع التشهير. تعاقب الجيش النظامي والحر والأحرار والنصرة على منطقتنا، ولم نر هذه السلوكيات إلا مع "داعش". أخاف إذا ما حصلت انتخابات أن يصوت الناس لبشار الأسد.
وفي حالة من الذهول، والتشكيك بمصداقية كلامها، والإيحاء لها بالمبالغة الكيديّة، على الرغم من تأكيداتها المستمرة، أنهت كلامها بجملة صادمة "لكن، الحمد الله، لم نشعر بالأمان إلا مع داعش. فمنذ دخلت، لم نر الطائرات تحلق، والقذائف تنهمر. يمكنك أَن تنزل إلى السوق، وتتبادل الزيارات مع الجيران، وتنام قرير العين في أواخر النهار".
سواءً كان عميلاً للنظام السوري أو مخترقاً، أو يمارس فهمه وعقيدته، النتيجة واحدة. دخول داعش والتنظيمات المتطرفة الأخرى أضَّر بالثورة، وأفاد النظام. ربما لا يوجد تنسيق بين داعش والنظام، لكن الأخير وفر له كل الظروف، ليقحم نفسه في معادلة الثورة السوريّة. ليس هذا فحسب، بل مدَّه بمقومات البقاء. كان النظام مرتاحاً لتضاعف نفوذ الجهاديين، لأنّ ذلك يعزّز روايته عن الثورة منذ البداية بأنّها "مؤامرة سلفية إرهابية"، تستهدف "علمانيته وتسامحه". ومن جهة أخرى، يساهم في إعادة تأهيل نفسه دوليّاً، بوصفه طرفاً معترفاً به في "مكافحة الإرهاب".
الشواهد كثيرة ومتعددة عن علاقةٍ خفيةٍ، تربط النظام مع داعش، كان أوضحها صفقة بينهما لضمان توريد النفط عبر الأنابيب في المنطقة الشرقية، في مقابل مبالغ ماليّة كبيرة، يستخدمها التنظيم في تمويل نشاطه، وكشف الصفقة تقرير لمخابرات غربيّة، نشرت صحيفة التلغراف البريطانية أجزاء منه. ومن أمثلةٍ ساطعةٍ أيضاً، ما جرى في مدينة الباب، فغداة حصار التنظيم مقاتلي المعارضة في المدينة، لم تتوقف طائرات النظام عن قصف المدينة، حتى انسحب مقاتلو المعارضة، وسيطر عليها تنظيم داعش، وكذلك في جبهة النقارين والشيخ نجار في حلب، عندما انسحب داعش منهما، ما أحدث ثغرةً كبيرةً في موازين القتال، لم تتمكن قوات المعارضة من سدّها إلا قبل أيام.
تشكل المواجهة ضد داعش بارقة أمل، من شأنها أن تحجم التنظيم، وتقلص نفوذه وانتهاكاته. كما أنها تنطوي على رسائل لتنظيمات أخرى، متشابهة فكرياً وأيديولوجياً مع داعش، أن الشعب السوريّ لم يثر ليستبدل نظاماً مستبداً بمستبد أفظع. ولا بديل هنا عن استراتيجية واضحةٍ، تخلص إلى إنشاء جيش وطنيٍّ، يضم غالبية الفصائل، ويساهم في التنسيق بينها، لمواجهة النظام والتنظيمات التي تحاول سرقة الثورة وامتطاءها.
"لقمة مغمسة بالدم" ..هكذا أخبرتني، عندما غادرت مكان إقامتها، الآمن نسبياً، لتلتحق بزوجها في إحدى مدن الشمال الشرقي، حيث يعمل هناك. كان ذلك في منتصف عام 2012، عندما كان الريف الحلبيّ ملتهباً بالقذائف والحمم. بعد حين، اعتادت على أصوات الطائرات، وأصبحت خبيرةً في أنواعها وفي قذائفها. خبرت الجيش الحر، والفصائل الإسلاميّة، وجبهة النصرة، فجميعهم استقروا في منطقتها، قبل أن يأتي "داعش"، وينشئ إماراته الإسلاميّة مطلع 2014.
وبخلاف جبهة النصرة التي مثلت تجديداً في فكر "القاعدة" وممارساتها، لا يمكن للمتابع أن يتجاهله، سلك تنظيم داعش سلوكًا مغايرًا، إذ بدأ التوسع في المناطق "المحررة"، واصطدم بكتائب الجيش الحر والفصائل الإسلامية، عندما حاول فرض البيعة والولاء عليها. كما أوغل في الانتهاكات في حق المدنيين، كالجلد والرجم والذبح، بذرائع واهية، من قبيل مخالفة الشريعة، أو التعامل مع الجيش الحر، والائتلاف الكافر. وأمام تزايد الانتهاكات، ومحاولاتها السيطرة على طرق الإمداد، ولاسيما معبر باب الهوى، دخلت فصائل إسلامية وجبهة النصرة وكتائب من الجيش الحر مواجهة ضد تنظيم داعش، وطردته من معظم مناطق سوريا، باستثناء مدينة الرقة التي اتخذها عاصمة لدولته، وريف حلب الشرقي بمدنه الرئيسيّة الثلاث، جرابلس ومنبج والباب.
كباحثٍ مهتم بقضايا الحركات الجهاديّة، تجاهلت مشاعري وأشواقي، وفكرت فوراً في إجراء شهادةٍ عن سلوكيات "داعش"، وطريقة إدارة جماعات هذا التنظيم المجتمعات المحليّة التي توجد ضمنها. وجهت لها أسئلتي، وبدأت الاستماع:
يغطون أثداء البقر والماعز، ويحفظونها لكي لا تظهر عورتها، فتفتن الناس. يطلبون الفتاة التي تعجبهم لزواج الدولة، فيذهبوا إلى ولي أمرها، ويعطونه مبلغاً (400 ألف ليرة)، ويتزوجها أحد رجالهم شهراً، أو ربما أكثر، ويتركها عندما يطلبه الواجب الجهادي. غالبيتهم أجانب (آسيويون وشيشان) لا يتكلمون العربيّة، ثيابهم رثة ووسخة، شعورهم طويلة وغير مهذبة، متزوجون من سوريات وعربيات جندوهن لمراقبتنا. دخلت، يوماً، علينا إحداهن، ونحن نحفظ الأطفال القرآن في المسجد. صرخت في وجهنا طالبةً الكف عمّا سمته التعليم الزائف للدين، وأن نبدأ في تعليم الناس أصول دينهم الصحيحة. لم نفهم المقصود، فدعتنا في اليوم التالي لأول درس. وياللمفاجأة عندما كان عنوانه: الزواج في الإسلام والسنة. روايات سمعتها أول مرة، على الرغم من أنني واظبت على دروس المعاهد الدينية منذ صغري. خجلنا كثيراً، ولم نعرف طريقةً لكي ننهي درسها، وننقذ أنفسنا من أَسئلة الأطفال الصغار المحرجة. طلوا جدران المدارس والمقرات والمباني الحكوميّة بالأسود تيمناً بالكعبة. الإشادة بالدولة الإسلامية وبأمير المؤمنيين البغدادي، حفظه الله، واجبة، عند تسلم الخبر، والغاز، والمازوت. إياك وأن تتلفظ بكلمة ( داعش)، فعقابها مائة جلدة مع التشهير. تعاقب الجيش النظامي والحر والأحرار والنصرة على منطقتنا، ولم نر هذه السلوكيات إلا مع "داعش". أخاف إذا ما حصلت انتخابات أن يصوت الناس لبشار الأسد.
وفي حالة من الذهول، والتشكيك بمصداقية كلامها، والإيحاء لها بالمبالغة الكيديّة، على الرغم من تأكيداتها المستمرة، أنهت كلامها بجملة صادمة "لكن، الحمد الله، لم نشعر بالأمان إلا مع داعش. فمنذ دخلت، لم نر الطائرات تحلق، والقذائف تنهمر. يمكنك أَن تنزل إلى السوق، وتتبادل الزيارات مع الجيران، وتنام قرير العين في أواخر النهار".
سواءً كان عميلاً للنظام السوري أو مخترقاً، أو يمارس فهمه وعقيدته، النتيجة واحدة. دخول داعش والتنظيمات المتطرفة الأخرى أضَّر بالثورة، وأفاد النظام. ربما لا يوجد تنسيق بين داعش والنظام، لكن الأخير وفر له كل الظروف، ليقحم نفسه في معادلة الثورة السوريّة. ليس هذا فحسب، بل مدَّه بمقومات البقاء. كان النظام مرتاحاً لتضاعف نفوذ الجهاديين، لأنّ ذلك يعزّز روايته عن الثورة منذ البداية بأنّها "مؤامرة سلفية إرهابية"، تستهدف "علمانيته وتسامحه". ومن جهة أخرى، يساهم في إعادة تأهيل نفسه دوليّاً، بوصفه طرفاً معترفاً به في "مكافحة الإرهاب".
الشواهد كثيرة ومتعددة عن علاقةٍ خفيةٍ، تربط النظام مع داعش، كان أوضحها صفقة بينهما لضمان توريد النفط عبر الأنابيب في المنطقة الشرقية، في مقابل مبالغ ماليّة كبيرة، يستخدمها التنظيم في تمويل نشاطه، وكشف الصفقة تقرير لمخابرات غربيّة، نشرت صحيفة التلغراف البريطانية أجزاء منه. ومن أمثلةٍ ساطعةٍ أيضاً، ما جرى في مدينة الباب، فغداة حصار التنظيم مقاتلي المعارضة في المدينة، لم تتوقف طائرات النظام عن قصف المدينة، حتى انسحب مقاتلو المعارضة، وسيطر عليها تنظيم داعش، وكذلك في جبهة النقارين والشيخ نجار في حلب، عندما انسحب داعش منهما، ما أحدث ثغرةً كبيرةً في موازين القتال، لم تتمكن قوات المعارضة من سدّها إلا قبل أيام.
تشكل المواجهة ضد داعش بارقة أمل، من شأنها أن تحجم التنظيم، وتقلص نفوذه وانتهاكاته. كما أنها تنطوي على رسائل لتنظيمات أخرى، متشابهة فكرياً وأيديولوجياً مع داعش، أن الشعب السوريّ لم يثر ليستبدل نظاماً مستبداً بمستبد أفظع. ولا بديل هنا عن استراتيجية واضحةٍ، تخلص إلى إنشاء جيش وطنيٍّ، يضم غالبية الفصائل، ويساهم في التنسيق بينها، لمواجهة النظام والتنظيمات التي تحاول سرقة الثورة وامتطاءها.