ستالين يفهم أخيراً

17 مايو 2016
لوحة للفنانة السعودية نور هشام السيف (بإذن من الفنانة)
+ الخط -
امتعض ستالين وكأنما ذبابة سقطت في حساء "الخارتشو" فكف عن الأكل. فكر في نفسه أنه حتى وكالة "C.I.A" لم تتجرأ يوماً على تلفيق شيء كهذا. نقر بأنامله على حاجب عينه اليمنى كمن يضرب على آلة كاتبة: 
- أين هي الآن؟
- الرفاق البلغاريون وضعوها في السجن.
رد "بيريا" وهو يمط فمه ليوحي بابتسامة مجلجلة. أطبق الصمت على مائدة العشاء، وتوقف القادة هم أيضاً عن تناول الطعام.
راح "بولشاكوف" يثرثر عن فيلم رعاة البقر الأميركي الذي شاهدوه في ذلك المساء، ولكن أحداً لم يبادله الحديث، فأخذ يتحسس ناصيته محرجاً وكف عن الاسترسال.

وجه ستالين نظرة ثاقبة إلى "بيريا":
- هل يعتقد الرفيق لافرينتي أنني سأموت في العام القادم؟
شحب وجه "بيريا" واسترق نظرة إلى "مالينكوف" وكأنما يستغيث به:
- هذه مجرد خزعبلات.. من تكون؟؟ إن هي إلا امرأة ضريرة مسكونة بالشياطين.
رمقه ستالين ساخراً. شبك "بولغانين" أصابعه وعلق بخبث:
- كنت أحسب أن الشياطين لا وجود لها..
زوى "بيريا" حاجبيه وتكلم بلهجة شوارعية صفيقة:
- إنه تعبير مجازي.. أوه نسيت أنك لم تتلق دروساً في الأدب!

همّ "بولغانين" أن يرد على الإهانة ويكيل له أعظم منها، ولكن ستالين تململ في مقعده بتلك الطريقة التي يعلن بها أنه متضايق من مسار الحديث.

دلف "معاونه الخاص" ووضع ورقة قرب كأس العصير. قرأ ستالين محتويات البرقية وكتب تعليماته، تريث قليلاً ثم شطبها، صعدت زفرة حارة من بين أضلاعه، ولكنه بإرادة حديدية لا تلين أطبق فمه وأجبرها على الخروج من منخريه.. إذ هو لم يسمح لإنسان مطلقاً أن يسمعه وهو يتنهد. كتب تعليمات جديدة ببطء ووقفات تعكس تردده وشرود ذهنه.

أخذ "المعاون" الورقة ومضى محدب الكتفين متعجلاً وعلى وجهه تلك المسحة التي تعني أن ضميره سيؤنبه حتى في العالم الآخر إذا ما حل الدمار بالكرة الأرضية بسبب تأخره بضع ثوانٍ في إبراق الأوامر.

راح ستالين يدندن بلحنٍ ناسياً من حوله، ثم بغتة التفت إلى "بيريا":
- هل ذكرت فانغا كيف سأموت؟
ازدرد "بيريا" ريقه وخفض بصره:
- نعم.
- حسناً!
رد ستالين وهو يتثاءب متلمساً كوع ذراعه اليسرى المعطوبة. استبد الفضول بالنخبة التي تتحكم في نصف الدنيا وتركزت أنظارهم على شفتي "بيريا":
- أرجو إعفائي.. ليس من الذوق.. يعني كما تعلمون.. ونحن نأكل ذكر تلك الأشياء - تنحنح - لكن الأفضل أن أرفع لكم التقرير المكتوب.
ابتسم ستالين وظهر في عينيه ذلك البريق المهدد بالموت:
- رفيق لافرينتي هلاّ احتسيت قدحك لكي ينطلق لسانك.

انتقلت عدوى ابتسامة الزعيم إلى كل الشفاه وهم يراقبون "بيريا" يتجرع كأسه. نظر ستالين إلى النادل الوحيد الذي يخدمهم وقرع بسبابته على حنكه، فجلب النادل "الأصم" قارورة شراب وملأ كأس "بيريا".

ابتسم "بيريا" مجاملاً وهو يرفع كأسه، ثم عبها على نفس واحد. تضرجتْ وجنتاه وسالت "الفودكا" على جانبي فمه فمسحه بمنديل:
- تقول بالحرف إنك أزهقت أرواح الملايين من البشر بسبب انحراف مزاجك، وسبب انحراف مزاجك هو أنك لا تعرف كيف تتغوط.. إن عدم استجابتك لنداء الطبيعة يؤدي بك إلى الإمساك وامتصاص مواد ضارة عبر الأمعاء تُهيّج الجهاز العصبي وتجعلك عصبياً منحرف المزاج.. تقول إنك تؤخره حتى يتحجر في أمعائك، ثم تقضي الوقت الأثمن من حياتك الذي يحصل فيه الإنسان العادي على الراحة وأنت تحزق وتحزق وآخر الأمر ستنتهي هالكاً بجلطة في المخ!
استمع ستالين بانتباه بالغ وظل جامداً لبرهة بدت أطول من الأبد، ثم استعاد رباطة جأشه:
- بطل الاتحاد السوفييتي.. قاهر هتلر.. يموت ميتة غير بطولية!
كادت ضحكة غير لائقة تفلت من "خروتشوف" لكنه تمالك نفسه محافظاً على مظهره الوقور. لاحظ ستالين حبات العرق التي تدحرجت على صدغ "بيريا"، ثم أخذ يقهقه بشخير أثناء كلامه:
- عندما أموت، دوّنوا في التقرير الطبي أن سبب الوفاة هو أنه كان يجهل كيف يتغوط!
واصل ستالين ضحكاته المتشنجة، وجارته الدائرة المقربة من الأتباع، ويقال إن ضحكاتهم ما تزال ترن في سلالم الكرملين حتى اليوم.
دلالات
المساهمون