07 نوفمبر 2024
زياد عيتاني متَّهم، ليس طريدة
كنتُ أجول في المدينة صباحاً، من دون أن أتمِّم واجبي اليومي بقراءة الصُحف. ألتقي بمعرفةٍ قديمةٍ في المقهى، فنقعد معاً للدردشة. الرجل أعرفه من أنصار الممانعة. تبدو على ملامحه أمارات السرور. أسأله عن تمتمات يصدرها، لم أفهمها. ماذا يا فلان؟ زياد عيتاني جاسوس إسرائيلي... والإرهاب قتل ثلاثمئة بريء في مصر... والقرضاوي أطاحوه... هذيان السعادة التامة. أسأله عن زياد عيتاني: كيف تثبتّ من التهمة؟ بين ليلة وضحاها؟ يحيلني إلى الصحف، التي سأكتشف بعد الظهر عند قراءتها أن واحدةً منها نشرت حرفية محضر الاتهام ضد عيتاني، بكل تفاصيله. وكانت خبطة موفَّقة لتلك الصحيفة الممانعة، ونالت رقماً قياسياً في عدد "اللايكات" الفيسبوكية. لكن المهم الآن، أتابع حديثي مع الرجل المزهو بهذه "التهمة". أُبدي دهشتي التامة. كيف؟ زياد عيتاني؟ هو لا يُدهش. كان يتوقع ذلك. يقولها برصانة العارف بالبواطن.. ويضيف، متباهياً، إن هذا "الجو"، أي الجو غير المؤيد للممانعة، هو مصنع خوَنة وجواسيس.. أبدي استغراباً أكبر. فأقول له "يعني إذا قالوا لك غداً إن دلال البزري خائنة متعاملة، فهل تصدّق؟" يرتبك قليلاً. ثم يجيب "نعم أصدّق، إذا كان هناك من براهين". براهين. تلك هي الكلمة. "ومن أين لك براهين عن تعامل زياد عيتاني؟". البراهين في المحضر المنشور في الصحافة. وهل تصدق أنتَ أن القضاة العاملين على هذه القضية محايدون بما فيه الكفاية، ليكون حكمهم الأول بمثابة براهين؟ وهل كان معه محام؟ وهل...؟ وهل...؟ هنا، ينتفض الرجل، وكأن مسّاً ضربه "القاضي فلان الفلان، هو أنزه القضاة في لبنان.. ألا تذكرين عندما فضح فساد أحد أقطاب جماعة 14 آذار؟ وقف بوجه العالم كله، قال كلمة حق... لم يخف من أحد...". أقول له إن القاضي المنزَّه هذا هو من حصة زعامة طائفية حليفة للممانعة، وإن الوزير الوصي عليه هو أيضاً من حصتها... لم يتوقف الموضوع عند هذا الحد. ونحن نحاول أن نفهم على بعضنا، يدخل علينا شاب مرصوص القوام، صارم الملامح؛ "صديق عزيز" على ما يصفه صاحبنا... يجلس صامتاً عابساً طوال حديثنا. وعند نهايته، أي عندما اصطدمنا بحجّة "القاضي النزيه"، توجه نحوه وسأله بخشوع: "أليس كذلك يا صديقي؟". وهذا الأخير هزّ برأسه، موافقاً، بحزم. يعرِّفني إلى صديقه: إنه "ضابط..."، من دون أن يضيف في أي فرع. فيهزّ الأخير رأسه ثانيةً بمزيد من الحزم. فتفهم أنتَ أنه صار عليك الصمت، ثم الاستئذان.
منذ ذلك اليوم، وعلى امتداد أسبوع تقريباً، عشنا تلك المطاردة، الافتراضية والواقعية لكل
"خائن من فريق 14 آذار"؛ على وقعٍ سريع، يتفوق على مطاردي الساحرات الشريرات؛ وعلى وتيرة "اعترافات" زياد عيتاني المتقلبة المتغيرة ثلاث مرات متتالية، في ظرف ثلاثة أيام: مرة أنه "اعترف" صراحة بالتعامل مع العدو، ومرتين أخريين أنه كلا، تعرَّض لعملية استغفال وابتزاز، أخلاقية، جنسية.. إلخ. ثم بعد ذلك أُغلق الملف، ودخل زياد عيتاني السجن؛ وهو، إن خرج بريئاً من هذه التهم، لن يتخلص من بصمة ذاك الأسبوع الجهنمي، وقد انفلتت في أثنائه الألسن في مواقع التواصل (ليتنا نغير اسمها إلى "مواقع التخاصم") التي استخدمت فيها كل الأعيرة البذيئة، في جوقةٍ واحدة، كأنها منظمة، تشنِّع بزياد عيتاني، وتجرف مع هذا التشنيع كل من تراوده نفسه بمعاداة "المقاومة"، أي حزب الله. نوع من الحمّى المرتفعة، حوَّلت أصدقاء زياد عيتاني إلى أشرار، يجب فحصهم واحدا واحدا للتأكد من صفاء دمائهم؛ وكانت صرخة "أين هؤلاء؟"، لكاتبٍ ممانعٍ سليط اللسان، يضع عينه على المجهر، مطارداً، متعقِّباً أسماء "العدو الداخلي"؛ في محاكاة ساذجةٍ لرواية جورج أورويل "1984"، حيث يحملق "الأخ الأكبر" بكل مواطن، وكل مواطن متهم سلفاً بالمؤامرة على عرشه الجمهوري الثوري. هكذا، استفاقت البداهة المنطقية المعهودة: من أن كل من يعادي سلاح حزب الله هو متعامل مع إسرائيل. زياد عيتاني يعادي حزب الله. إذن زياد عيتاني متعامل، أصلاً، مع إسرائيل. حملة قوية، ربما منظمة، أوصلت أبناء هذه "البيئة"، المتعاملة سلفاً، إلى الشعور بذنبٍ سوف يقترفونه عاجلاً أم آجلاً. فكانت مزايداتهم ضد التطبيع، ضد إسرائيل، ضد زياد عيتاني نفسه الذي تحول، بفضل هذا المناخ، إلى أرذل خلق الله، يتنصّل منه، ومنذ اللحظة الأولى، صديق عمره، ويصمت الباقون، ويتكلم عنه القليلون، تعاطفاً، أو تساؤلاً.
الدوافع السياسية لصناعة مناخٍ كهذا؟ بعضها واضح، والآخر غامض. إذا كانت "المقاومة" منتصرة كل هذا الانتصار، فبأية جثة تمثّل؟ أم أنها، بعد "القضاء" على الإرهاب "التكفيري"، عليها أن تضرب بيد من حديد "الإرهاب المدني" المتمثل بـ"البيئة الحاضنة له"، أي المعادية لسلاحه؟ أم أن جناحه المسيحي، العوني، وجدها فرصةً إضافيةً للتشنيع بمنافسه المسيحي، أي "القوات اللبنانية" (سمير جعجع) صاحب الفَعْلَة المعروفة بالتعامل مع إسرائيل؟ وهي "خطيئة
أصلية" (على ما حرّض الإعلامي الممانع). فيتكرس بذلك عون مسيحياً وحيدا، "مقاوما"، ممثل كل المسيحيين، بعد أن يزيح "القوات اللبنانية العميلة" عن طريقه؟ والإثنان، الممانع والعوني، يتجاهلان أن متعاملين رُصدوا في صفوفهما، وأوقفوا. وهذا حديثٌ متصل يطول.
حسناً. الآن، بالتوازي مع قضية زياد، أو بعدها بأيام، طلعت علينا "فضيحة" جديدة، وسجن ومضبطة اتهام بحق شاعر كتب بوستاً فاحشاً بحق السيدة مريم العذراء. الدفاع الإعلامي عنه، وبعد ذلك إطلاق سراحه، كانا أسرع من الفضيحة. أما الحجّة العلنية التي رستْ من أجل إطلاقه، وتناقضت مع استنكار حزب الله هذا "التجديف بالدين"، فكانت أن الشاعر، السكّير، يحمل صك براءته الوثيق: من أنه ينتمي "إلى البيئة المناصرة لحزب الله منذ عقود"... شاعر يساري، يبادل ليبراليته الثقافية بتأييده سلاح "المقاومة". ذنوب سماوية تغتفر، مقابل "خدماتٍ" تقدَّم على الأرض، فالمصالح السياسية أوْلى من العقائد الدينية.
والغريب أنه، في هذا المناخ المعبأ ضد أعداء الداخل المتعاملين سلفاً مع العدو الإسرائيلي، هو ذاك الاستبطان العميق للتخريب العدواني الإيراني بأدواتٍ محلية. وهو تخريبٌ لا يستند إلى "معلومات"، إنما إلى "اعترافاتٍ" متكرّرة بعلاقة التبعية القائمة بين إيران التوسعية وحزب الله. تبعية مستبْطَنَة وهيمنة عميقة إلى حدّ أن أحدا لا يفكّر، مجرّد التفكير، بأن المصالح الاستراتيجية الإيرانية تتناقض مع المصالح اللبنانية والعربية، ومع سيادة دولها. وبأن التعامل مع إيران من باب التبعية ليس عملاً مشرّفاً ولا وطنياً. وسيأتي يوم تكون العمالة لصالحه لا تختلف عن العمالة لإسرائيل.
الإعلامي مارسيل غانم أيضاً سوف يواجه القضاء، بتهمة استضافة مسؤولين سعوديين دافعوا عن سياسة بلدهم، في برنامجه الحواري. وحلقة أخرى من ملامح اختلال موازين القوى بشدة لصالح المحور الإيراني، ولكن مارسيل غانم قوي جداً، وفي وسعه الدفاع عن نفسه. لا يحتاج إلى بيئة ولا أصدقاء. عنده شبكة العلاقات. وهذا لا يعني غضّ الطرف عن استدعائه ومحاولة محاكمته، بتهمة أنه دعا إلى برنامجه الحواري مسؤولين سعوديين، للتعبير عن سياسة بلادهم.
أما زياد عيتاني فدخل في عتْمة دهاليز الصمت والنسيان. وهو ما زال، حتى الآن، بريئاً، قانونياً ومعنوياً، إلى أن تثبت التهمة في محاكمة علنية وعادلة، ويكون إلى جانبه محام. وهذه أبسط حقوقه، فهو متّهم، وليس طريدة.
منذ ذلك اليوم، وعلى امتداد أسبوع تقريباً، عشنا تلك المطاردة، الافتراضية والواقعية لكل
الدوافع السياسية لصناعة مناخٍ كهذا؟ بعضها واضح، والآخر غامض. إذا كانت "المقاومة" منتصرة كل هذا الانتصار، فبأية جثة تمثّل؟ أم أنها، بعد "القضاء" على الإرهاب "التكفيري"، عليها أن تضرب بيد من حديد "الإرهاب المدني" المتمثل بـ"البيئة الحاضنة له"، أي المعادية لسلاحه؟ أم أن جناحه المسيحي، العوني، وجدها فرصةً إضافيةً للتشنيع بمنافسه المسيحي، أي "القوات اللبنانية" (سمير جعجع) صاحب الفَعْلَة المعروفة بالتعامل مع إسرائيل؟ وهي "خطيئة
حسناً. الآن، بالتوازي مع قضية زياد، أو بعدها بأيام، طلعت علينا "فضيحة" جديدة، وسجن ومضبطة اتهام بحق شاعر كتب بوستاً فاحشاً بحق السيدة مريم العذراء. الدفاع الإعلامي عنه، وبعد ذلك إطلاق سراحه، كانا أسرع من الفضيحة. أما الحجّة العلنية التي رستْ من أجل إطلاقه، وتناقضت مع استنكار حزب الله هذا "التجديف بالدين"، فكانت أن الشاعر، السكّير، يحمل صك براءته الوثيق: من أنه ينتمي "إلى البيئة المناصرة لحزب الله منذ عقود"... شاعر يساري، يبادل ليبراليته الثقافية بتأييده سلاح "المقاومة". ذنوب سماوية تغتفر، مقابل "خدماتٍ" تقدَّم على الأرض، فالمصالح السياسية أوْلى من العقائد الدينية.
والغريب أنه، في هذا المناخ المعبأ ضد أعداء الداخل المتعاملين سلفاً مع العدو الإسرائيلي، هو ذاك الاستبطان العميق للتخريب العدواني الإيراني بأدواتٍ محلية. وهو تخريبٌ لا يستند إلى "معلومات"، إنما إلى "اعترافاتٍ" متكرّرة بعلاقة التبعية القائمة بين إيران التوسعية وحزب الله. تبعية مستبْطَنَة وهيمنة عميقة إلى حدّ أن أحدا لا يفكّر، مجرّد التفكير، بأن المصالح الاستراتيجية الإيرانية تتناقض مع المصالح اللبنانية والعربية، ومع سيادة دولها. وبأن التعامل مع إيران من باب التبعية ليس عملاً مشرّفاً ولا وطنياً. وسيأتي يوم تكون العمالة لصالحه لا تختلف عن العمالة لإسرائيل.
الإعلامي مارسيل غانم أيضاً سوف يواجه القضاء، بتهمة استضافة مسؤولين سعوديين دافعوا عن سياسة بلدهم، في برنامجه الحواري. وحلقة أخرى من ملامح اختلال موازين القوى بشدة لصالح المحور الإيراني، ولكن مارسيل غانم قوي جداً، وفي وسعه الدفاع عن نفسه. لا يحتاج إلى بيئة ولا أصدقاء. عنده شبكة العلاقات. وهذا لا يعني غضّ الطرف عن استدعائه ومحاولة محاكمته، بتهمة أنه دعا إلى برنامجه الحواري مسؤولين سعوديين، للتعبير عن سياسة بلادهم.
أما زياد عيتاني فدخل في عتْمة دهاليز الصمت والنسيان. وهو ما زال، حتى الآن، بريئاً، قانونياً ومعنوياً، إلى أن تثبت التهمة في محاكمة علنية وعادلة، ويكون إلى جانبه محام. وهذه أبسط حقوقه، فهو متّهم، وليس طريدة.