روبير سوليه: شبح السادات يخيم على مصر

16 يوليو 2015
لم يكن السادات مجبراً على اتخاذ القرار المشؤوم
+ الخط -


قد لا يحتاج القارئ العربي إلى من يعرّفه بالكاتب الفرنسي ذي الأصول المصرية: روبير سوليه. فهذا الشغوف بأم الدنيا، نشر روايات (ترجمت إلى اللغة العربية)، تدور كلها في فلك مصر، فضلًا عن كتب أخرى تاريخية. معه كان هذا الحوار

* في السادس من أكتوبر/تشرين الأوّل المقبل تكون قد مرّت ثلاث وثلاثون سنة على اغتيال الرئيس المصري أنور السادات خلال حفل استعراض عسكري. ربّما نستطيع القول إن البعض وضعه في غياهب النسيان، وإن البعض الآخر ما زال ينظر إليه باعتباره رجلًا يجسّد السياسة الواقعية. إلا أنه على نقيض من الرئيس جمال عبد الناصر، لم يخلق حنينًا إلى شخصه أو فترة حكمه، حتّى وإن كانت مصر ما تزال تعيش على إرثه الخفي. فمن هو أنور السادات؟

في الحقيقة أن أنور السادات رجل بعدّة وجوه وعدّة أقنعة. أهو ذاك "الرجل العظيم"؟، "الرجل الشجاع والرؤيوي"؟ هل وفّر بالفعل للبلد فرصة تاريخية ونادرة بإبرامه اتفاق السلام مع إسرائيل واستعادة شبه جزيرة سيناء؟ أم هو ذاك السياسي الماكر الذي قاد بلاده إلى طريق مسدود ليشرّع الأبواب للإسلاميين؟ إن كان الرجل مثار خلاف وتجاذب، فإن الغالبية تجمع على أن المبادرات التي اتخذها تبقى مبادرات مذهلة، مثل تخطيطه بشكل سرّي ومحكم لحرب أكتوبر/ تشرين الأوّل عام 1973، ثم زيارته الرسمية لإسرائيل.

كان أنور السادات، الذي رأى النور في الدلتا في أحضان عائلة فقيرة تتألف من أزيد من عشرة أشخاص، رجلًا ذا توجّه قومي. بقي السادات لمدّة ثمانية عشر عامًا تحت عباءة جمال عبد الناصر قبل أن يخلفه في السلطة. كان السادات رجل المفاجآت. وقد وضع اغتياله خلال عرض عسكري حدًا لحياة مليئة بالتناقضات. خلّفت "سنوات السادات" المليئة بالتناقضات تداعيات عميقة على المجتمع المصري وهي اليوم مفتاح هام لفهم ومقاربة الواقع المعقّد لمصر.

* تصلح حياة أنور السادات مادّة لكتابة روائية أو كتابة مسرحية. مثلها مثل حياة صدّام حسين، أو معمر القذافي أو غيرهما، فإنها تتضمن جميع العناصر التراجيكوميدية. ومع ذلك، لم يعد السادات يُذكر إلا نادرًا.

قلّة من رجالات الدولة في القرن العشرين هي التي غيّرت، إما بخطاب أو بالتفاتة سياسية ما، مجرى التاريخ. ينتمي أنور السادات إلى هذه الفئة. إذ إن زيارته إلى القدس عام 1977، بلا شرط ومن دون أي مقابل، في وقت كانت فيه إسرائيل العدو اللدود للعرب، فاجأت، بل أذهلت العالم. وقادت تلك الزيارة إلى توقيع معاهدة السلام. المذهل أيضًا، أنه قبل أربع سنوات على توقيع هذه المعاهدة، خلق السادات المفاجأة بشنّه حربًا صاعقة وخاطفة على الدولة العبرية، التي قيل بأنها لا تقهر. تسبّبت هذه المواجهة المسلّحة بـ "صدمة البترول الأولى"، التي لا زالت تداعياتها تؤثّر في الاقتصاد العالمي. وصحيح، حياة السادات فعلًا مثل الرواية.

اقرأ أيضاً: الراعي يتقمّص السادات: ذاهب إلى القدس

فالمراهق ذو الأصول البدوية، الذي كان يحلم أن يصبح ممثلًا، نجح في نهاية المطاف، بالظهور على مسرح المشهد العالمي، من خلال أمور عدّة: محاربته للمحتلّ البريطاني، وذلك خلال الحرب العالمية الثانية، ومشاركته حين كان ضابطًا في مؤامرة برفقة جواسيس نازيين. لكن شُطب اسمه من الجيش، واعتُقل، ليقضي عدّة سنوات في السجن. بعد فراره، عاش متخفيًا، بطريقة سرية، من أجل أن يشارك في عمليات مقاومة ضدّ المصالح البريطانية.

واعتُقل مرّة أخرى، وليطلق سراحه ويلتحق بالجيش من جديد. كان السادات هو الذي أعلن على أمواج الراديو في 23 يوليو/ تموز 1952 عن استيلاء الضباط الأحرار على السلطة. وبعد محاولة الانقلاب، تخلّص من سلوكه المشاغب، ليصبح شخصًا ليّن العريكة، وخنوعًا إلى حدّ ما. كان المحيطون به، ينظرون إليه باعتباره رجلًا باهتًا لا شخصية له. ولم يتوقّع أحد من هذا الرجل أن يخلف يومًا الزعيم جمال عبد الناصر الذي كان محط إعجاب العرب كلّهم. إلا أن السادات فرض نفسه تدريجيًا مع هدف واضح لديه: سلخ الناصرية عن الجسم المصري. فمصر غيّرت، تحت رئاسته، من معسكر ولائها، بانتقالها من تعاون وثيق مع الاتحاد السوفياتي السابق، إلى تحالف تابع للولايات المتحدة الأميركية.

أي تمّ الانتقال من اشتراكية الدولة إلى ليبرالية هوجاء، من دون الحديث عن معاهدة السلام مع إسرائيل، التي وضعت بلد الفراعنة في قفص اتهام المجتمعات العربية، في الوقت الذي تعدّ فيه مصر البلد الأكثر نفوذًا في المنطقة. كان من المفروض أن يرافق "الانفتاح الاقتصادي" ليبيرالية سياسية. لكن هذه الأخيرة، أجهضت في مهدها، لا لأن مصر كانت تتخبط ضدّ الفقر، والأمية، والانفجار الديمغرافي، بل بسبب القناعة الاستبدادية لأنور السادات الذي كان، وهو شاب، أحد دعاة النظام الديكتاتوري.

كان "بطل الحرب والسلام"، كما لُقب، يميل إلى خوض النقاش ضمن نطاق خاصّ، ويكره أن تعارَض آراؤه أمام الجمهور. كانت هذه التناقضات سبباً في تقديرات متعارضة عنه وعن موقفه. ففين حين مدحه البعض، انتقده البعض الآخر بشدّة. ولم يقم السادات بأي مجهود لتوضيح مساره، بحيث قدّم في كلّ مرة رواية مختلفة عنه وعن أصدقائه وخصومه؛ فقد "تزلّف" لجمال عبد الناصر في كتاباته الأولى، قبل أن يشتمه في كتاباته التالية مشيرًا إلى أنه "أوّل من أطلق وأشرف على حركة الضباط الأحرار". وكجميع الطغاة، أعاد كتابة التاريخ على هواه.

في الغرب، كان السادات نجمًا كبيًرا. مرّر في مصر صورة "رجل الشعب" بل صورة الفلاح المتشبّث بالتقاليد، من غير أن يعارض أو يمنع زوجته جيهان، التي ابتكرت وظيفة "السيدة الأولى"، من إظهار حداثتها والدفاع عن حقوق المرأة. فـ"الرئيس المؤمن" كما لقّب نفسه، لم يستعرض وحسب رموز وعلامات تقواه مثل "زبيبة الصلاة" على جبهته، بل أدرج في الدستور المصري مبادئ الشريعة الإسلامية، مفسحًا بذلك المجال لتسرّب الإسلاميين في المجتمع. لكن رغبته الدفينة كانت محاربة اليسار والناصريين.

وقد كلّفه هذا الخطأ حياته، ومنح للدين مقام الصدارة في الحياة السياسية والاجتماعية في مصر. لم تكن فترة حكم السادات فاصلة صغيرة في تاريخ مصر. هكذا، ولفهم مصر اليوم بل لفهم العالم العربي، من الضروري والحيوي العودة إلى سنوات حكم السادات، والبحث فيها.

*ماذا تبقّى اليوم من السادات ومن نظامه؟

سبق للصحافي والكاتب محمّد حسنين هيكل أن علّق على سنوات السادات بقوله: "ما أن اختفى السادات من الشاشات، حتى امّحت الإحدى عشرة سنة التي قضاها على رأس السلطة". تمّ الحفاظ على التغيرات التي أدخلها السادات؛ توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل، والتحالف مع الولايات المتحدة، وسياسة الانفتاح الاقتصادي، وذلك لمدّة تسعة وعشرين عامًا من فترة حكم حسني مبارك.

بعد جمال عبد الناصر، عرفت مصر طوراً لنزع الإرث الناصري، لكن لا يمكن القول إنها عرفت الشيء نفسه مع السادات، أي لا يمكن القول إنها عرفت طورًا لتخلصها من إرث السادات. فقد كان هذا الأخير إلى حدّ ما، مجبرًا على خوض الحرب ثم توقيع معاهدة السلام. كانت هاتان المغامرتان بحاجة إلى الكثير من الجرأة والعزم. قليل من الرؤساء العرب لديهم القدرة على القيام بمثل هذه المبادرات الخطرة.

بعد 1981، لم تتأثّر معاهدة السلام الإسرائيلية - المصرية بالخضّات التي عرفها الشرق الأوسط. صمد هذا "الإنجاز الكبير"، أي المعاهدة، أمام الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية، وصمد في وجه الحرب الأهلية اللبنانية، وفي وجه النزاع المسلّح بين إسرائيل وحزب الله، وكذلك حرب الخليج، بل وحتى سقوط مبارك ووصول الإخوان المسلمين للسلطة، ثم وصول الجيش مجددًا إلى السلطة.

* لكن ألا يمكن عد هذا السلام ، سلامًا هجينًا؟

تمّ توقيع معاهدة السلام بين دولتين لا بين شعبين. لئن وافقت أغلبية المصريين على السلام، فإنها تذّمرت من تأزّم الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، مع استمرار احتلال إسرائيل للضفّة الغربية. هكذا تنامت، من عقد إلى آخر، مشاعر العداء للصهيونية. كانت السياسة الخارجية للسادات ستشكّل نقطة تحوّل في المجتمعات العربية، لو أدّت إلى حلّ للقضية الفلسطينية، وهو الأمر الذي لم يتحقّق إطلاقًا. إلا أن السادات ليس وحده المسؤول عن هذا الفشل.

فالإسرائيليون، وعبر استمرارهم في سياسة الاستيطان بالضفة الغربية، وبرفضهم لأي اتفاق في شأن القدس، حالوا دون قيام دولة فلسطينية. أمّا الحكام العرب، فقد تميّزوا بتفرّقهم، وخطاباتهم المزدوجة وكذلك دماغوجيتهم التقليدية.

ارتكب السادات خطأ لم يغفره له الديمقراطيون المناوئون لقيام دولة إسلامية: زجّه للشريعة في الدستور المصري. لم يكن، حين فعل، تحت أية ضغوط، ولم يكن مجبرًا عام 1971 على اتخاذ هذا القرار المشؤوم والكارثي، الذي تبين في ما بعد أنه من الصعب قانونيًا التراجع عنه، اللهم إلا بتغيير الدستور. لما فُتح النقاش عام 2012 بشأن المادة رقم 2، كان الغرض هو معرفة إلى أي حدّ يمكن تعميق مقتضيات الشريعة وتعميمها.

فبعد عبارة "الشريعة كأحد مصادر الدستور" لعام 1971، ثم عبارة "الشريعة كمصدر رئيسي"، يرغب الأصوليون الراديكاليون في أن تصبح هي المصدر الأوّل والأخير. اعتبر المعسكر العلماني الإبقاء على المادة رقم 2 انتصارًا له. الخطأ القاتل الذي ارتكبه السادات هو اتكاؤه على الإسلاميين لمحاربة اليسار والناصريين. في هذا السياق كتب لويس عوض: "ربّى الرئيس السادات ثعابين سامّة، لكن أحدها تمكّن من لدغه". كانت المعادلة التي طرحها السادات من باب المستحيلات: أراد أن ينفتح على الغرب، أي يمدّ يد المصالحة للإسرائيليين، وفي الوقت نفسه، أراد أن يذكي نار وهيجان أولئك الذين يرغبون في إقامة دولة دينية، تنبني على قواعد تنتمي لأزمنة غابرة. لكن من المجحف تحميل السادات وحده تنامي المدّ الأصولي، الذي لم تشهده مصر وحدها، بل مجموع العالم العربي وغير العربي.

غير أن سياسة "الرئيس التقي" أو "الرئيس الورع"، ساهمت في هذا الوضع، من دون الحديث بأن الاقتصاد كان سندًا قويًا للأصولية وذلك بطريقتين: تتمثّل الأولى في تشجيع الهجرة نحو بلدان الخليج. عودة الكثير منهم وبحوزتهم ثروة من الدولارات وفي جعبتهم إسلام أصولي. غير أن هذا الكوكتيل نسف المجتمع المصري من الداخل. وتتمثل الطريقة الثانية في تشجيع الثراء الفردي على حساب العدالة الاجتماعية. انسحاب الدولة ترك المجال مفتوحًا للجمعيات الإسلامية التي تسلّلت من هذه الثغرة، وبفضل الأموال المستوردة من الخارج، لكسب صدقية ومريدين، وذلك بفضل الأعمال الخيرية.

* أي مستقبل لمصر. هل يمكن القول إنها اليوم على شفير الهاوية؟

مع الثورة، ثورة يناير، أدّى المجتمع المدني وشبكات التواصل الاجتماعي دورًا مهمًا جدًا في المعادلة السياسية الجديدة. لا زالت مصر تعيش على ثوابت هذه المعادلة. لكن تطوّرت الأشياء هذه المرّة لصالح انبثاق مجتمع مدني نشط، تغذّيه قنوات وشبكات التواصل الاجتماعي. الأحداث الأخيرة هي إعادة، لكن على نحو مختلف، لما عرفته مصر سابقًا.

تدخّل المؤسسة العسكرية للإطاحة بنظام الإخوان، يندرج في هذا السياق. لكن عوضًا عن أن ينتظر الجيش أن يسقط نظام الإخوان كما تسقط الغلة الناضجة، قرّر التدخّل ليركب الموجة ويكتسب "بكارة" جديدة. تقنياً يتعلّق الأمر بانقلاب عسكري. لكن الانقلاب الحقيقي هو ذاك الذي قاده الضباط الأحرار عام 1952 لما أقدمت كوكبة من الجنود على قلب النظام الملكي وإطلاق تسمية ثورة على ذلك. بعدها التمسوا من الشعب أن يلتحق بهم. هذه المرّة، انقلبت الآية ليطالب ملايين المصريين الجيش بأن يلتحق بهم.

أما في ما يخص مستقبل مصر وموقف الإخوان المسلمين من الوضع، فإن أغلب رؤسائهم موجودون رهن الاعتقال. وليست لهم أية مراقبة على أنصارهم، وبالأخص على الجماعات الراديكالية (المتطرفة) التي تتمتع بهامش للحركة والانفلات والقيام بهجمات كما حصل في سيناء. ومن رحم الغضب تتنامى يومًا بعد يوم الدولة الإسلامية.


اقرأ أيضاً: "فورين بوليسي": مصر وانهيار خرافة الوسيط
المساهمون