18 سبتمبر 2024
رسائل تشاوشيسكو في بريد العرب
منذ نهاية السبعينيّات، حين ترسخت العوائل الحاكمة، وبدأ التحول نحو اللبرلة الاقتصادية والإعراض عن رأسمالية الدولة، استخلص النظام العربي من تجارب التحديث الاستبدادي والإصلاح السياسي في النصف الثاني من القرن العشرين، بقيادة فرانكو وتشونغ - هي وبينوشيه وغورباتشوف، الآتي: الذهاب نحو التنمية وبناء اقتصاد إنتاجي، مع التوجه نحو الإصلاح السياسي المحدود أو بدونه، سيؤدي بالضرورة إلى انهيار النظام. لم يكن هذا استنتاجًا غبيًا؛ فهو صحيح وأكثر من تجربة تاريخيّة تُصادق عليه، ولكن ثمّة استنتاجين آخرين أقل وضوحًا، لكنهما أكثر خطورة (وفوّتهما النظام والنخب المعارضة): الإصرار على إدامة التخلف الاجتماعي، وتركيز السلطة والثروة وعوائد النمو وجهاز الدولة والجيش في عوائل حاكمة لا يضمن بقاء النظام، لكنه يضمن عُنف الثورة، لأن رد نظامٍ بمثل هذه التركيبة سيكون وحشيًا، وبلا رادع على الأغلب، وسيدفع الثورة بالتالي إما إلى التلاشي أو إلى التوحش. وكلما كان ظلّ المؤسساتيّة في الدولة القمعيّة أقصر وأضعف، وتحكم مصالح العوائل وأحيانًا المزاج الشخصي المتقلب أكثر تركيزًا في جهاز الدولة، كان تعامل الثورة مع قيادة النظام أكثر تطرّفًا، لأن الثورة على أنظمةٍ كهذه تصبح أيضًا أكثر عنفًا، ولا يوجد جهاز دولة عاتٍ أو نخب ديمقراطية منظمة (بسبب تعقيم المجال السياسي، ومنع تشكل برجوازية وطنيّة) تستطيع تحقيق الشق الموضوعي من الثورة، أي تحويل الآمال العامة إلى مؤسسات قانونية وبرامج سياسية وتوجهات اقتصادية. وبالتالي، يصبح الانتقال بعد ذلك نحو مشاريع الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة والتنمية شاقًا وخطرًا. وهنا تأتي أهمية دراسة حالة ديكتاتور رومانيا، نيكولاي تشاوشيسكو، في السياق العربي، ونعتقد أن دراسة حالات التحول الديمقراطي في بولندا والمجر، والتي رافقت اندلاع الثورات العربيّة، على أهميتها، لم تكن الأكثر إفادة للسياق العربي، خصوصا في المشرق (وإن كانت مفيدة لحالة تونس)؛ فالحالة الأقرب لنا في شرق أوروبا كانت رومانيا عمومًا، وتحت حكم تشاوشيسكو خصوصًا، وهي التي تستحق الالتفات والاهتمام؛ فتاريخها القريب، وبنيتها الديمغرافيّة وارتباطها بالتاريخ الإمبراطوري والفوارق الهائلة بين الريف والمدينة، كلها عوامل مشجعة لوضع رومانيا في جدول أعمال البحث الأكاديمي العربي.
رومانيا، مثل دول عربيّة كثيرة، تملك كثيرًا من مقومات النهوض الاقتصادي، ولها أرضٌ
خصبةٌ تكفي نظريًا لإطعام ما يزيد على 90 مليون إنسان، لكنها في عهد تشاوشيسكو كانت تعاني من نقص في السلع الغذائية الأساسية، مثل الخبز والحليب! وفي الوقت نفسه، كانت خطط التحديث الشيوعي القسري التي تقوم بها الدولة أقل نجاحًا من مثيلاتها في بولندا والاتحاد السوفييتي، وبالتأكيد لا تقارن بألمانيا الشرقية، لأسباب كثيرة (أغلبها تاريخي)، منها أن التحديث في رومانيا تشاوشيسكو ارتبط بجنون العظمة عنده وعند زوجته، وفساد الطبقة العليا في جهاز الدولة، هذا بالإضافة إلى أن هذه المشاريع التي ذهب ضحيتها الآلاف موتًا بسبب ظروف العمل والأمراض والتشغيل القسري، مثل إنجاز المرحلة الثانية من مشروع قناة الدانوب - البحر الأسود (نعم.. هنا نتذكّر نهر معمر القذافي وقناة عبد الفتاح السيسي)، أو تهجيرًا واقتلاعًا بهدم أحياء ومحو قرى بأكملها، مثل مشروع تنظيم الأراضي، لا تزال جدواها الاقتصادية محل جدل، هذا إذا لم نذكر مشاريع جنون العظمة الصرفة، مثل "قصر الشعب" الذي أضرّ آلاف البشر، وكلّف خزينة الدولة الفقيرة مبالغ طائلة، وأضر الهوية الثقافية لمدينة بوخارست.
هذا بالإضافة إلى أن نظام تشاوشيسكو لم يحل مشكلة الأقليتين، المجرية والألمانية التاريخيّة، في رومانيا، بل وساهمت سياساته التمييزيّة في استفحالها. وكان تشاوشيسكو أيضًا مثل زملائه العرب من مؤسسي العوائل الحاكمة، وبطريقة تشابه كثيرًا نظامي الأسد الأب والقذافي تحديدًا، حيث يترافق تركيز النفوذ السياسي والقيادة العسكرية ومصادر الثروة في يد العائلة، مع إنتاج أساطير مبالغ في كذبها عن ألمعية أفراد العائلة، وتميزهم العقلي، وعدم الخجل من خلع الألقاب عليهم وتعميم النفاق العلني في الصحافة والجامعات والكتب (وثمّة تشابه ذو معنى رمزي فحسب بين جثتي علي عبد الله صالح الممددة داخل لحاف برتقالي وتشاوشيسكو الممددة داخل معطفه الثقيل!).
لا تزال مفاعيل سياسات تشاوشيسكو المدمرة للمجتمع والمجال العام حاضرة؛ فبعد ثورة 1989 وإعدام تشاوشيسكو، لم يحكم البلد ويدير مفاصل الدولة "سياسيو" النظام القديم فحسب، كما حدث في أغلب دول أوروبا الشرقية، بل وحتى أن رجالات الأجهزة الأمنية المتهمين بجرائم وانتهاكات استمروا في السلطة، وشكلوا النخبة الجديدة (وحتى المهندسة التي صممت "طوعًا" وأشرفت على المشروع الأكثر انحطاطًا في عهد تشاوشيسكو، "قصر الشعب"، أصبحت شخصية سياسية ونائبة في البرلمان!)، وكان أحد أبرز الأسباب لذلك أن فشل التحديث في عهد تشاوشيسكو أنجب بيئة اجتماعيّة بلا حراك، ومعارضة سياسية في الخارج بلا حركات قاعديّة منظمة في الداخل، فلم توجد حركة رومانية قويّة، مثل حركة "تضامن" البولندية، وبدأت الاحتجاجات بصورة عفويّة نسبيًا، واستمرت كذلك حتى إعدام الجيش للرئيس وزوجته.
يذكّرنا الإشكال الروماني بعد 1989 بالإشكالين الليبي والسوري بعد 2011: النظام بسياساته الاجتماعية والاقتصاديّة لم يسمح بتشكل مراكز قوى اجتماعيّة وسياسية في وسعها المساعدة في حمل مشروع الثورة والسيطرة على الدولة، سواء أتم التخلص من رأس النظام أم لا.
كما أنه يذكّرنا بأن المهمة الأبرز على عاتق النُخب التونسية ليس حماية الديمقراطية بالخطب،
أو حتى بتشكيل الحكومات فحسب، بل بالإسراع في تكوين الحوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تحمي النظام الديمقراطي على المدى البعيد: أي الذهاب نحو التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة الواضحة والمعتمدة على الذات.
وختامًا، تذكّرنا التجربة الرومانيّة بأمر مهمٍّ يحب بعض المثقفين العرب الاستهزاء به، والتقليل من شأنه: حيويّة الدور القومي للدولة العربيّة؛ فرومانيا بعد 1989 استطاعت الاستمرار والتحسن البطيء، على الأقل في ملفي حقوق الإنسان والاقتصاد، لأن المُحيط الأوروبي قرّر دعم تحوّلها ومراقبته عن كثب؛ أي أن تجربة رومانيا، ببنيتها الإشكالية وتحولها الأعرج وإرثها التاريخي، تحتاج في تطورها دور الاتحاد الأوروبي الحيوي فترة طويلة. وعربيًا، تحتاج كل دولة عربيّة في تحولها الديمقراطي وتنميتها الاقتصاديّة إلى مُحيطها القومي، لكي تستمر وتتمكّن من إيجاد المقومات الاجتماعية للتنمية الاقتصادية والتقدّم الديمقراطي. وبدون ذلك، سيكون تحولها مهددًا بالفشل المدوي، إذا اكتملت عوامل الانتكاس في الداخل، كما رأينا في مصر والجزائر، بل وأخطار التشظي والتشطير، ولنا في اليمن وسوريّة وليبيا أمثلة حيّة تفقأ عيون المُكابِرين.
رومانيا، مثل دول عربيّة كثيرة، تملك كثيرًا من مقومات النهوض الاقتصادي، ولها أرضٌ
هذا بالإضافة إلى أن نظام تشاوشيسكو لم يحل مشكلة الأقليتين، المجرية والألمانية التاريخيّة، في رومانيا، بل وساهمت سياساته التمييزيّة في استفحالها. وكان تشاوشيسكو أيضًا مثل زملائه العرب من مؤسسي العوائل الحاكمة، وبطريقة تشابه كثيرًا نظامي الأسد الأب والقذافي تحديدًا، حيث يترافق تركيز النفوذ السياسي والقيادة العسكرية ومصادر الثروة في يد العائلة، مع إنتاج أساطير مبالغ في كذبها عن ألمعية أفراد العائلة، وتميزهم العقلي، وعدم الخجل من خلع الألقاب عليهم وتعميم النفاق العلني في الصحافة والجامعات والكتب (وثمّة تشابه ذو معنى رمزي فحسب بين جثتي علي عبد الله صالح الممددة داخل لحاف برتقالي وتشاوشيسكو الممددة داخل معطفه الثقيل!).
لا تزال مفاعيل سياسات تشاوشيسكو المدمرة للمجتمع والمجال العام حاضرة؛ فبعد ثورة 1989 وإعدام تشاوشيسكو، لم يحكم البلد ويدير مفاصل الدولة "سياسيو" النظام القديم فحسب، كما حدث في أغلب دول أوروبا الشرقية، بل وحتى أن رجالات الأجهزة الأمنية المتهمين بجرائم وانتهاكات استمروا في السلطة، وشكلوا النخبة الجديدة (وحتى المهندسة التي صممت "طوعًا" وأشرفت على المشروع الأكثر انحطاطًا في عهد تشاوشيسكو، "قصر الشعب"، أصبحت شخصية سياسية ونائبة في البرلمان!)، وكان أحد أبرز الأسباب لذلك أن فشل التحديث في عهد تشاوشيسكو أنجب بيئة اجتماعيّة بلا حراك، ومعارضة سياسية في الخارج بلا حركات قاعديّة منظمة في الداخل، فلم توجد حركة رومانية قويّة، مثل حركة "تضامن" البولندية، وبدأت الاحتجاجات بصورة عفويّة نسبيًا، واستمرت كذلك حتى إعدام الجيش للرئيس وزوجته.
يذكّرنا الإشكال الروماني بعد 1989 بالإشكالين الليبي والسوري بعد 2011: النظام بسياساته الاجتماعية والاقتصاديّة لم يسمح بتشكل مراكز قوى اجتماعيّة وسياسية في وسعها المساعدة في حمل مشروع الثورة والسيطرة على الدولة، سواء أتم التخلص من رأس النظام أم لا.
كما أنه يذكّرنا بأن المهمة الأبرز على عاتق النُخب التونسية ليس حماية الديمقراطية بالخطب،
وختامًا، تذكّرنا التجربة الرومانيّة بأمر مهمٍّ يحب بعض المثقفين العرب الاستهزاء به، والتقليل من شأنه: حيويّة الدور القومي للدولة العربيّة؛ فرومانيا بعد 1989 استطاعت الاستمرار والتحسن البطيء، على الأقل في ملفي حقوق الإنسان والاقتصاد، لأن المُحيط الأوروبي قرّر دعم تحوّلها ومراقبته عن كثب؛ أي أن تجربة رومانيا، ببنيتها الإشكالية وتحولها الأعرج وإرثها التاريخي، تحتاج في تطورها دور الاتحاد الأوروبي الحيوي فترة طويلة. وعربيًا، تحتاج كل دولة عربيّة في تحولها الديمقراطي وتنميتها الاقتصاديّة إلى مُحيطها القومي، لكي تستمر وتتمكّن من إيجاد المقومات الاجتماعية للتنمية الاقتصادية والتقدّم الديمقراطي. وبدون ذلك، سيكون تحولها مهددًا بالفشل المدوي، إذا اكتملت عوامل الانتكاس في الداخل، كما رأينا في مصر والجزائر، بل وأخطار التشظي والتشطير، ولنا في اليمن وسوريّة وليبيا أمثلة حيّة تفقأ عيون المُكابِرين.