رسائل الرجم والجلد في سورية

01 نوفمبر 2014

مسيرة في برلين دعماً للنساء في مناطق سيطرة "داعش"(25أكتوبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

ربما، بعد كل هذه الشهور والسنوات التي اقتربت من الأربع، الحافلة بما لا يمكن لكوابيس النوم، ولا هواجس اليقظة، أن تفبركه، من مشاهد القتل والسادية المتوحشة، ربما نكون قد اعتدنا منظر الدم المسفوح، وألفنا رائحته، كما صارت مشاهد الأشلاء الممزقة والنتف البشرية والرؤوس المقطوعة أمراً عادياً. بل وصلنا من الترويض حدّ مشاهدة نشرات الأخبار الطافحة بهذه المشاهد، المنتقاة بدقة، والممنتجة بحرفية، تؤدي الغاية المرجوة، ونحن نجلس حول موائد الطعام. هذه هي صياغة الحياة على وقع الحروب من هذا النوع.

لكن مشهد الرجم الذي وقع في ريف حماه، قبل أيام، وتسيّد صفحات التواصل الاجتماعي، وأثار عاصفة من الانتقادات والاستنكارات والجدل الذي استدرج الصراعات الدينية والمذهبية والفتاوى، حدّ التكفير والرجم المعنوي، هو، بحد ذاته، موضوع جدير بالوقوف عنده.

محكمة ميدانية لجريمة غير مكتملة العناصر، بل هو تطبيق حكم استنفد كل مراحل المرافعات والدفاعات، قبل إعلانه والنطق به. جريمة لا تتحقق إلا بوجود شخصين شريكين فيها، بينما أحدهما غائب أو مغيّب، تبدو فيه امرأة لا يظهر وجهها تتلقى حكماً يتلوه شاب بلحيةٍ كثيفةٍ وبلغة عربية فصحى، يناديها بأختي، ومرة أختي الكريمة، كيف لا وهي تتقبل عقوبتهم المقدسة بخنوع اليائس؟ ثم يسألها فيما إذا كانت راضية بحد الله، يسأل مخلوقاً ضعيفاً مسلوب الإرادة والمبادرة مربوطاً بوسطه، مثل شاة تُجرّ إلى الذبح. ثم يسأل يتنكر بقناع الإنسانية والرأفة، عندما يطلب من الشخص الواقف بجانبه على أساس أنه والدها بأن يسامحها. طبعاً، الأب يرفض المسامحة، ثم يضطر مجاملة إلى لفظها. مشهد سينمائي يحمل رسائل بصرية مدججة بالعقيدة العنفية، والنزعة الاستبدادية في أقصى حالاتها.

هذا المشهد الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي بكثافة، ثم سُحب بعدها من شبكة الإنترنت، أثار لغطاً واحتجاجاً وجدالات حامية الوطيس، وأدى إلى شيطنة بعضهم البعض الآخر، وزاد في أسباب الخلافات والشروخ بين أفراد المجتمع، بينما لم يكن المرة الأولى التي يتم فيها رجم امرأة للتهمة نفسها، تحت حكم ما يدعى تنظيم داعش. كانت هناك سابقتان في الرقة والطبقة، وليس الرجم السلوك الوحشي الوحيد الذي يُمارسه أفراد هذا التنظيم تجاه الآخر بشكل عام، أو تجاه المرأة بشكل خاص. شاهدنا ممارسات قطع الرؤوس، وسبي النساء والفتاوى التي تبرر هذه الإجراءات، وتسندها إلى النصوص والسيرة وأحداث التاريخ، بل وتستنبط التدابير الشرعية حول كيفية التعامل مع النساء السبايا، بعد فرزهن إلى مشركات أو مرتدات.

كما أن الرجم ليس العنف الوحيد الذي يمارس بحق المرأة، هي تتعرض للرجم اللامنظور تاريخياً في مجتمعاتنا، حتى تحت خيمة العلمانية التي ادعتها الأنظمة السياسية، فهي كانت تعاني من الظلم والاضطهاد مرتين، مرة بسبب كونها واحدة من أفراد يعيشون في المجتمع تحت سلطة شمولية مستبدة، وأخرى كونها امرأة عملت الأنظمة على بقائها، تحت نير العرف والتقاليد والموروث بكل حمولته المهينة للإنسانية، كضرورة من ضرورات ترسيخ أركان الاستبداد والقمع، بتكريس البداوة والقبلية وأشكال الاستلاب والسيطرة، بمباركة الأعراف حيناً، والدين حيناً آخر، حتى إن قانون جرائم الشرف لا زال ساري المفعول في محاكمنا، حيث يمكن للأب أو الأخ ذبح ابنته أو أخته، على الشبهة، ليواجه عقوبة مخففة تافهة، مراعاة لعرضه وشرفه وطهر سمعته، بينما لو ارتكب كل أنواع الموبقات أو الخيانة أو ما يمسخ القيمة الإنسانية فالقانون لا يعاقبه، هذا في خيمة الحداثة التي تدعيها أنظمتنا.

هذه الرسائل العنفية موجهة إلى شعوب المنطقة، وإلى العالم في عصر التسويق والسوق الدينية التي دخلتها الجماعات الإسلامية بكل أطيافها. وباعتبار أن داعش تنظيم أعلن، مبدئياً، قيام دولته، دولة الخلافة في العراق والشام، خطوة أولية في مسيرته الطامحة إلى السيطرة على العالم، وفرض شريعته، فإن هذه المشاهد من العنف موجهة إلى المجال العام، إلى الفضاء الاجتماعي الذي يسيطر عليه، والذي يطمح بالوصول إليه.

هو لا يختلف عن أي نظام شمولي مستبد، إلّا بارتكازه على الدين والشريعة، إذ يقوم باحتكار المجال العام وضبطه وإدارته وفق قوانينه، امتلاك الجسد والتحكم به، إن كان بالاستغلال أو بالعنف أو بالاغتصاب أو الرجم أو التقطيع هو اختصار لفلسفته، هو تكثيف لقبضته الرمزية، هو امتلاك معلن للحياة والأقدار بشكل جمعي، وهو إعلان وإشهار دامغ للعلاقة بين السلطة والمجتمع، بشكل يصبح فيه المجتمع الخاضع غير قابل لأن يخلق ذاته الخاصة به، بل السلطة المهيمنة هي التي ترسم، وتشكل، هذه الذات التي تغيب فيها الفردية بالمطلق. حتى الرجل الذي ظهر في مشهد الرجم على أنه والد الفتاة المدانة والمحكومة، هو، أيضاً، واقع تحت نير القيم المغروسة على أنها مرضاة الله، وأن التعدي عليها يستوجب إقامة الحد الذي اختلف المشرعون حوله، إن كان مذكوراً في القرآن أم لا، أو إن كان الرسول طبقه قبل ألف وأربعمائة عام بالشروط نفسها أم لا؟ كما أنه مسلوب الإرادة مثل تلك الفتاة الواقفة على ساقين من حديد، وهي تنتظر موتها، لا تتلعثم في نطقها، وهي تستسمحه.

أي نفق مظلم أوصلتنا إليه عقود من تغييب وعينا؟ أي قطيع نحن، يتبدّل علينا الرعاة، كلٌّ بعصاه ومزماره، ونحن نهيم مستغنين عن عقولنا؟ يُمارس علينا العنف بكل ما وصلت إليه مخيلة الشر البشرية، نُباد بالبراميل والصواريخ والسواطير، نُهجّر، نخطف، نموت في المعتقلات، نموت على الحدود، نموت من الجوع، من البرد، لا نفعل شيئاً غير الموت، بينما شذاذ الآفاق من كل بقاع الأرض، القريبة والبعيدة يصوغون لنا حياتنا، ويديرونها بذرائع مختلفة، وعناوين رهيبة، مرة باسم الله وأخرى باسم الوطن؟

ليس الغاية المطلوبة من الرجم الردع عن الزنا، ولا غاية الجلد الردع عن ارتكابات مارسها بعض الأفراد في مناطق سيطرة التنظيم، أو الكتائب الجهادية السلفية الأخرى، والتي تديرها محاكم شرعية، يرأسها قضاة لا أحد يعلم شيئاً عن كفاءتهم، المطلوب هو امتلاك الحياة، امتلاك الإرادة، بامتلاك الجسد، فجسد مشلول أو مغتصب أو مستعبد لا يمكن لصاحبه أن يفكر، هو ليس حراً لكي يفكر، وليس حراً لتكون له إرادة ويكون صاحب قرار. المطلوب هو إنسان هذه الأرض، القضاء على ما تبقى من قيمة فيه وتحويله إلى كائن فاقد هويته الإنسانية، وبالتالي، مجتمع منهار لا يمكن أن تقوم له قائمة، لأجل بناء مستقبله في مقبل الأيام.