رداً على ظريف: لماذا الأمن لا السياسة مدخلاً للاستقرار؟

22 مارس 2018
+ الخط -
طرح وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، في مقالته في "العربي الجديد" (20/03/2018) وجهة نظر رسمية "نحو نموذج أمني جديد في المنطقة"، مستمد من "الاستراتيجية الإيرانية عن محيطها الإقليمي". وبغض النظر عما يعنيه نشر مقال لوزير دولة ضالعة في جرائم حرب وإبادة في المنطقة العربية، ومسؤول عن سياساتها الخارجية، من إهانة لضحايا سياسات دولته عن الأمن، فإن فكرةً تطرحها مثل هذه الدولة تتعلق بأمن عموم المنطقة جديرة بالشك والفحص والتدقيق.
جوهر الأطروحة الإيرانية هي فكرة "المنطقة القوية"، والتي تعني، حسب ظريف، "القبول بمبدأ تأمين المصالح الجماعية، وضرورة احترامها وتعميم مبدأ الربح لكل الأطراف في المنطقة، ونبذ دوافع التفوق والنزعات التسلطية وإقصاء سائر اللاعبين"، يدعو هذا التعريف، المستمد بشكل كامل من التعريف الشائع لنظرية الأمن الدولي والإقليمي الراهن، للتدقيق في مدلول "المصالح الجماعية" وفقا للإيرانيين، وما هي المصالح المشروعة وغير المشروعة؟ وبالتالي، ما إذا كانت جميع تدخلاتهم العسكرية في دول الإقليم، وإنفاقهم عشرات المليارات في سورية واليمن ولبنان هي لتحقيق مصالح تراها مشروعة لها.
الأهم أن هذا التعريف يتضمن إنكاراً مطلقاً لممارسات إيران على الأرض، والتي تمثل تجليات هذه الاستراتيجية الإيرانية المدّعاة التي تكذبها كل الوقائع.. كيف لمثل هذه الاستراتيجية التي تظهر إيران دولة مسالمة أن تجعل استجلاب عشرات الآلاف من المرتزقة للقتال في سورية إلى جانب نظام الأسد، لسحق ثورة شعبية ضد نظام حكمه الدكتاتوري تحقق أمنا جماعياً 
للمنطقة؟ كيف يمكن أن يبرّر الوزير ظريف، في ضوء هذه الاستراتيجية، عمليات تجريف السكان، وتوطين شيعة مرتزقة من العراق ولبنان وإيران وأفغانستان في سورية، بدل السكان الأصليين المقتلعين، لمجرد أن مصالح دولته تقتضي ذلك؟ كيف يمكن للسيد ظريف أن يبرّر، في ضوء هذه الاستراتيجية الإيرانية، عمليات القصف على المدنيين، وسحق المدن فوق رؤوس سكانها وقصف المدنيين بالغازات السامة والبراميل المتفجرة؟ كيف يمكن لمثل هذه الاستراتيجية التي قال إنها تعنينا "نحن المسلمين" جميعاً أن تكون مقبولةً في منطق المسلمين؟ وكيف يمكنه، في ضوء هذه الاستراتيجية، أن يبرّر كيف أن إيران "المسلمة" أوقعت من القتلى والضحايا العرب والمسلمين من جيرانها أكثر بعشرات المرات مما أوقعته إسرائيل؟
يمكن، ببساطةٍ، أن ينكر ظريف ذلك كله، فهذه عادة الأنظمة الشريرة، لا تعترف بجرائمها، وأفضل وسيلة لها هي الإنكار، لقد رأينا شريكتها الاستراتيجية الروسية تفعل الأمر نفسه في كل مرة ترتكب جريمة، أو مثل النظام الذي يدافع عنه في دمشق، والذي قال عنه للتو مرشد الثورة في الدولة الإيرانية علي خامنئي "قائد ومقاوم كبير"! (01/03/2018)، هذا تذاكٍ على شعوب المنطقة، ربما السيد ظريف أيضاً غير مهتم بشعوب المنطقة، وإنما مهتم بأنظمة المنطقة، أي بالنظرة إلى الدول من خلال أجهزة الحكم، حيث لا تكون الشعوب مرئيةً، ولا مأخوذة بالحسبان، وإنما هي مجرد مادة للصراع على المصالح.
يقودنا ذلك كله لتفحص مفهوم الأمن الذي تعنيه إيران في هذه الأطروحة، فعلى الرغم من أن فهم الأمن الإقليمي، باعتباره مصلحة وطنية لدول الإقليم، يغفل اعتباره جزءاً من أمن العالم في هذا الجزء الحساس من الكرة الأرضية، حيث المصالح الدولية قائمة ومتصادمة، ويصعب إنكارها، إلا أن الأهم هو جوهر الأطروحة لحل مشكلات المنطقة المتمثل في المدخل الأمني، وهو يعني تجاهل البواعث الفعلية للأزمات في المنطقة والاكتفاء بمعالجة النتائج، وهو على الواقع يعني مقايضة الأمن بالسلام، وهو يعني تماماً الحفاظ على المكاسب التي حققتها إيران، أو أي دولة أخرى خارج حدودها في الإقليم (الواقع جميع الدول خاسرة باستثناء إيران)، بعبارة أخرى هو تحويل المكاسب الإيرانية الإمبريالية (في حالة إيران يمكن أن نتحدث عن كولونيالية أيضاً) مقابل السلام. وأي حوار يدعو له السيد ظريف سيكون هذا هدفه: كيفية تحقيق الأمن مقابل السلام. ولكن أي سلام وتنمية في ظل الدمار الهائل الذي خلفته إيران في المنطقة؟
بهذا المعنى، سيكون الأمن مقايضة بالسياسة والحقوق السياسية بالأمن، وهو أمرٌ سيفضي إلى تثبيت المكاسب العابرة للحدود للدول الإقليمية. وبالتالي، خلاصة المقترح الإيراني الذي يقدمه السيد ظريف يعني، في الواقع، أن نجعل دولاً مارقة، مثل إيران، شريكة في الأمن والسلام الإقليمي! هذا هو "المنظور الأمني الجديد" الذي يدعو إليه ظريف، هل يمكن لمثل هذا المنظور أن يشكل مدخلاً للاستقرار؟ مصادر التهديد للأمن ناشئة من خلل سياسي، يتعلق بالدرجة الأولى بشرعية الأنظمة ومنع الشعوب من تحقيق إرادتها وتطلعاتها، وإيران ضالعة أكثر من غيرها في هذه اللعبة. أي أمن في إطار الوضع الحالي لا يمكن أن يتحقق ما لم يأخذ بالحسبان جذور تهديد الأمن والاستقرار بصراحة ووضوح.
يقودنا هذا إلى المقدمة التي انطلق منها وزير الخارجية الإيراني، وهي مقدمة طائفية بامتياز، والتي يقول فيها "الهزيمة النكراء التي مُني بها تنظيم داعش في العام الأخير وضعت حداً لمشروع الدولة الإسلامية في العراق والشام، وأجهضت على الأرض، وبشكل جدي، تيار التطرف والعنف، بعد أن جرّ منطقتنا إلى إحدى أكثر الحقب التاريخية خسراناً ودماراً". وهنا، يتجاهل ظريف البواعث السياسية التي أنشأت "داعش"، فليس ثمّة إشارة إلى ذلك، علماً أن السياسات الخارجية لدولته في العراق (الذي تتحكم فيه إيران فعلياً) والحكومات الشيعية الطائفية والقتل الطائفي الذي نشأ انطلاقا من ذلك هو السبب الرئيس في نشوء هذا التنظيم، كما هو معروف للجميع. كما أن إيران رعت تنظيم القاعدة وآوت قياداته، وهو أمر ليس في وسع الإيرانيين إنكاره، وهي ذاتها رعت أسوأ حكومة تمييز طائفي في العراق نشأ في عهدها التنظيم، وكبر في أثناء حكومة نوري المالكي الطائفية. وتركيز مقالة الوزير محمد جواد ظريف على "داعش" وتجاهلها فرق الموت والمليشيات الإرهابية العراقية والبواعث الفعلية لنشوء "داعش" ليسا أمراً عابراً. إنه يقول، بشكل مضمر، إن الإرهاب سني تتحمل مسؤوليته الدول السنية، صحيح إنه ليس متوقعاً من ظريف أن يعترف، في مثل هذه الأطروحة، بذلك، لكن يمكنه أن يقول، بصيغة عامة، إن ثمة أزمة طائفية في المنطقة بدون أن يحدّد المسؤولية، يمكن أن يكون في هذا بعض المنطق والإنصاف.
"المنطقة القوية" هي شراكة في اقتسام المكاسب الاستعمارية في المنطقة، وتثبيتها بين 
الأقوياء، الدول الضعيفة فيها هي موضوع اقتسام. الأمن هو أمن وظيفي هنا، هدفه حراسة مكاسب تلك الدول. على المبدأ العسكري: "اضرب وفاوض". يجب مواجهة حقيقة أن دولة تقوم على أيديولوجيا سياسية - دينية عابرة للحدود لا يمكن لمفاهيم مثل الحوار أو الأمن الجماعي أن يكون لها مغزى، سوى أن تكون لتثبيت مكاسب هذه الدولة. فضلا عن أن تاريخ هذه الدولة يمنع من الثقة بها التي تمثل أساس الأمن، فكيف يمكن الثقة بدولةٍ قادت حروباً طائفية وموّلتها، وصنعت أنظمة طائفية، قادت مذابح، واقتلعت ملايين الناس من أرضها، ودعمت أنظمة طائفية قتلت مئات الآلاف بدوافع طائفية أن تدعو إلى الأمن؟ كيف لدولةٍ عملت على سحق شعبٍ يريد تقرير مصيره، للحفاظ على نظام تابع لها، وتدعو، في الوقت عينه، إلى قيام نظام أمني، يحفظ حقها بتقرير مصيرها؟ إيران، بنظامها الحالي، التي أصبحت في عيون كثيرين من أبناء المنطقة، والسوريين بشكل خاص، أخطر من إسرائيل، هي مصدر دائم لتهديد الأمن في المنطقة، ومن الصعب تصديق أنها يمكن أن تكون غير ذلك.
أخيراً، بغض النظر عن الأفكار الواردة في مقال ظريف، علينا أن نسأل: ماذا يعني نشر مقال له في صحيفة عربية؟ وما مغزى هذا التوقيت؟ يريد ظريف أن يقول في مقاله إن إيران انتصرت على العرب، وهي الآن تفرض السلام بشروطها، وشروطها الأمن مقابل السلام. أما مغزى التوقيت فهو مرتبط بتطور التسلح إلى أفق جديد، وفيما تحقق مليشيات إيران تقدماً على حساب قوى الثورة في الغوطة الشرقية، آخر معاقل المعارضة السورية في دمشق، وبدء الصراع حول مناطق النفوذ، بمعنى آخر التمدد الإيراني العسكري على أبواب مرحلة جديدة هي الصراع من أجل تثبيته.
AB5EAFDC-1508-40B2-AFA2-651C6AA3C640
AB5EAFDC-1508-40B2-AFA2-651C6AA3C640
عبد الرحمن الحاج

كاتب سوري

عبد الرحمن الحاج