09 نوفمبر 2024
ربيع السودان وتضامن العرب
تعيد النتائج التي أفضت إليها ثورة الربيع العربي في السودان مسألة "التضامن بين الشعوب العربية" إلى الواجهة، فإذا كان صحيحاً أن نظام عمر البشير الذي جرى "اقتلاعه"، بحسب تعبير بيان المجلس العسكري السوداني، أطاح يوم وصل إلى السلطة في عام 1989 مخرجات انتخابات ديمقراطية قرّرها الشعب السوداني يومها، إلا أنه على الرغم من ذلك، بدا آنذاك محاطاً بتأييد واسع في أوساط الشعوب العربية التي تعاطفت مع الشعار الإسلامي الذي رفعه، وحينها كان المد الإسلامي العاطفي يحتل أكبر المساحات في انحيازات الجماهير العربية.
هكذا، تعاطفت الشعوب العربية في 1989 مع انقلاب عسكري، عزف لها على الوتر الذي تهواه، وغازل مشاعرها الدينية، وقال لها ما تودّ أن تسمعه من الأنظمة العربية الحاكمة، من دون أن تأخذ في اعتبارها أنه قوّض إرادة الشعب السوداني التي قرّرها في انتخابات ديمقراطية، جرت قبل انقلاب البشير بشهور. وهو حالٌ يذكّر اليوم بانحياز قطاعاتٍ من الشعوب العربية إلى نظام بشار الأسد في سورية، بدعوى رفعه شعار الممانعة ضد إسرائيل، إلى درجة تصديق روايته عن وجود "مؤامرة كونية" ضد سورية، من دون التفاتٍ للمجازر الدموية المروّعة التي أوقعها بالشعب السوري، وكأن حال الشعب السوري لا يعني تلك الفئات من الشعوب العربية التي يكفيها أن تطرب على غناء الطاغية وأكاذيبه. كما يذكّر، من دون شك، بالشعبية التي حظي بها وما يزال نظام صدّام حسين في العراق، لأنه ردّد العبارات النارية التي أحب العرب سماعها لمواجهة الإمبريالية والصهيونية، وخاض حروباً وعد فيها بالنصر أمةً ما عرفت من الحروب إلا الهزائم، وذلك من دون التفاتٍ لنتائج حكمه الطويل على الشعب العراقي.
والحال أن التضامن مفقودٌ على مستوى الشعوب العربية، فكيف لتلك الشعوب أن تنتقد غياب التضامن بين الأنظمة؟ أما مردّ غياب ذلك التضامن الشعبي، فيرتبط، من دون شك، بغياب التفكير بالنهوض العربي، على أساس تقدّم الشعوب وحريتها وكرامتها، في مقابل الإصرار على اعتقادٍ مفاده بأن النهوض العربي، وقضاياه التحرّرية، مناطان فقط بصعود قائد مخلّص ما، يقود الأمة إلى الانتصار في حروبها، ويحقق لها أحلامها الأيديولوجية، ويستجلب لها
النصر الإلهي، فيما ينحصر دور الشعوب في التصفيق والتأييد.
لو آمن العرب بأن تحرّرهم ونهوضهم يرتبط بتقدمهم العلمي، ونجاحهم التربوي والقيمي والأخلاقي، وكرامتهم بوصفهم مواطنين يحصلون على حقوق المواطنة، تماماً كما يؤدون واجباتها، لما كان لهم أن يتضامنوا مع الطغاة، ويتغافلوا عن أحوال أشقائهم الرازحين تحت حكم أولئك الطغاة، ولعلموا أن انقلابات العسكر وخطابات الزعماء وشعاراتهم الزائفة لا يمكن أن تصنع تحرّراً ولا حرية ولا كرامة ولا نهوضاً؛ بل لعلموا أن تلك الانقلابات والخطابات هي الضد الموضوعي للتحرّر والحرية، وأن أول الكرامة القومية هو إنجاز حقوق الشعوب وكرامة أفرادها.
إذا لم يكن من نتائج ثورات الربيع العربي تحرّك العرب من موقع تأييد الأنظمة إلى موقع التركيز على تعامل تلك الأنظمة مع شعوبها، ومدى نجاحها في تحقيق المساواة وتكافؤ الفرص، وتطوير التعليم والاهتمامات بالكفاءات، والقضاء على الفساد والمحسوبية، وتبديد القبلية والطائفية، فما فائدة تلك الثورات على الصعيد الاستراتيجي المفضي إلى انتقال الأمة من التخلف إلى التقدّم، والمساهمة في الحضارة الإنسانية المعاصرة التي تركتنا وراءها بمسافات فلكية؟
هل أبدى العرب الذين تضامنوا مع انقلاب عمر البشير في عام 1989 ندمهم اليوم، في عام 2019، على موقفهم ذاك؟ هل أعلنت تنظيماتٌ عربيةٌ تطرح نفسها مرآة لمشاعر التديّن لدى الشعوب اعتذارها عن ترويجها انقلاب البشير على الحكومة السودانية المنتخبة، وتصويره خطوةً في مسيرة "العودة إلى الإسلام" التي ستقود الأمة إلى فلاحها؟ لم نسمع بذلك أبداً، وكأن العقود الثلاثة التي رزح الشعب السوداني فيها تحت وطأة ادعاءات البشير التي لم يصدّقها العمل على أرض الواقع، لا تعني شيئاً، والأفظع أن هؤلاء أنفسهم الذين احتفلوا بانقلاب البشير باعتباره نصراً كبيراً، هم أنفسُهم الذين يحتفلون اليوم بالانقلاب عليه باعتباره نصراً مؤزّراً. فأي كوميديا هذه التي تتجلى في دنيا العرب؟
والحال أن التضامن مفقودٌ على مستوى الشعوب العربية، فكيف لتلك الشعوب أن تنتقد غياب التضامن بين الأنظمة؟ أما مردّ غياب ذلك التضامن الشعبي، فيرتبط، من دون شك، بغياب التفكير بالنهوض العربي، على أساس تقدّم الشعوب وحريتها وكرامتها، في مقابل الإصرار على اعتقادٍ مفاده بأن النهوض العربي، وقضاياه التحرّرية، مناطان فقط بصعود قائد مخلّص ما، يقود الأمة إلى الانتصار في حروبها، ويحقق لها أحلامها الأيديولوجية، ويستجلب لها
لو آمن العرب بأن تحرّرهم ونهوضهم يرتبط بتقدمهم العلمي، ونجاحهم التربوي والقيمي والأخلاقي، وكرامتهم بوصفهم مواطنين يحصلون على حقوق المواطنة، تماماً كما يؤدون واجباتها، لما كان لهم أن يتضامنوا مع الطغاة، ويتغافلوا عن أحوال أشقائهم الرازحين تحت حكم أولئك الطغاة، ولعلموا أن انقلابات العسكر وخطابات الزعماء وشعاراتهم الزائفة لا يمكن أن تصنع تحرّراً ولا حرية ولا كرامة ولا نهوضاً؛ بل لعلموا أن تلك الانقلابات والخطابات هي الضد الموضوعي للتحرّر والحرية، وأن أول الكرامة القومية هو إنجاز حقوق الشعوب وكرامة أفرادها.
إذا لم يكن من نتائج ثورات الربيع العربي تحرّك العرب من موقع تأييد الأنظمة إلى موقع التركيز على تعامل تلك الأنظمة مع شعوبها، ومدى نجاحها في تحقيق المساواة وتكافؤ الفرص، وتطوير التعليم والاهتمامات بالكفاءات، والقضاء على الفساد والمحسوبية، وتبديد القبلية والطائفية، فما فائدة تلك الثورات على الصعيد الاستراتيجي المفضي إلى انتقال الأمة من التخلف إلى التقدّم، والمساهمة في الحضارة الإنسانية المعاصرة التي تركتنا وراءها بمسافات فلكية؟
هل أبدى العرب الذين تضامنوا مع انقلاب عمر البشير في عام 1989 ندمهم اليوم، في عام 2019، على موقفهم ذاك؟ هل أعلنت تنظيماتٌ عربيةٌ تطرح نفسها مرآة لمشاعر التديّن لدى الشعوب اعتذارها عن ترويجها انقلاب البشير على الحكومة السودانية المنتخبة، وتصويره خطوةً في مسيرة "العودة إلى الإسلام" التي ستقود الأمة إلى فلاحها؟ لم نسمع بذلك أبداً، وكأن العقود الثلاثة التي رزح الشعب السوداني فيها تحت وطأة ادعاءات البشير التي لم يصدّقها العمل على أرض الواقع، لا تعني شيئاً، والأفظع أن هؤلاء أنفسهم الذين احتفلوا بانقلاب البشير باعتباره نصراً كبيراً، هم أنفسُهم الذين يحتفلون اليوم بالانقلاب عليه باعتباره نصراً مؤزّراً. فأي كوميديا هذه التي تتجلى في دنيا العرب؟