رئاسيات الجزائر: السلطة تريد مرشحاً

29 سبتمبر 2019
شنّ بن فليس هجوماً على تبون (العربي الجديد)
+ الخط -
بدأت خريطة مرشحي الانتخابات الرئاسية المقبلة في الجزائر تتكشف بشكل أكثر وضوحاً، بعد إعلان أسماء وازنة سياسياً، ومحسوبة على السلطة أو جناحٍ فيها، عن ترشّحها رسمياً، ومنها رئيسا الحكومة السابقان، علي بن فليس وعبد المجيد تبون. لكن ترشح تبون، الذي كان أحد أبرز المقربين من الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وركناً من نظامه، أعاد طرح سؤالٍ  حول ما إذا كانت السلطة بصدد البحث عن "مرشحٍ الضرورة"، خصوصاً في ظلّ حربٍ كلامية بدأت مبكراً بين بن فليس وتبون.  
ولم تغب السلطة في الجزائر عن أي انتخابات رئاسية حصلت منذ إقرار التعددية السياسية في البلاد، ومنذ أول انتخابات رئاسية تعددية جرت عام 1995، إذ لم تكن هي ومجموعاتها السياسية والإدارية تخفي دعمها لمرشحٍ محدد: ليامين زروال في انتخابات 1995 وبوتفليقة في الاستحقاقات الأربعة التي تلت ذلك بين سنتي 1999 و2014. لكن الظروف الخاصة التي ستجري فيها انتخابات 12 ديسمبر/كانون الأول المقبل، وبفعل تحفّز الحراك الشعبي وحساسية الظرف السياسي، لم تسمح حتى الآن للسلطة بالإعلان صراحة عن مرشحها بالقدر الكافي من الوضوح.



قبل يوم الخميس الماضي، كان الاعتقاد سائداً في الجزائر بأن رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس هو من المرشحين الأقرب إلى دوائر السلطة والجيش، خصوصاً في حال استدعاء علاقة سابقة بينه وبين جناحٍ فيهما، له علاقة بالمحاولة الفاشلة لقيادة أركان الجيش لمساعدة بن فليس على إحداث انقلاب انتخابي في الاستحقاق الرئاسي عام 2004 للتخلص من بوتفليقة. لكنّ عزم تبون على خوض السباق، ومنح إدارة حملته لسفير الجزائر في نيويورك عبد القادر باعلي، والإدارة الإعلامية لها لأكاديمي مقرب من الجيش، هو محمد لعقاب، أعطى الانطباع بأنه قد يكون هو المرشح المفترض للسلطة، خصوصاً أنه يحاول الاستفادة من رصيدٍ سياسي وشعبي بسيط حصل عليه بعد إطلاقه في الفترة القصيرة التي رأس فيها الحكومة الجزائرية (من 4 يونيو/حزيران إلى 16 أغسطس/آب 2017) حرباً ضد تغوّل رجال الأعمال النافذين، وإطلاقه تصريحات حادة في البرلمان ضد تمدد قبضة الكارتل المالي على الاقتصاد ومقدرات البلاد. ويضع هذا الأمر تبون في موجة الخطاب والفعل ذاتها التي تبنّاها الجيش والقضاء عقب استقالة بوتفليقة، بشأن مكافحة الفساد وملاحقة رجال الأعمال والوزراء الفاسدين.

لكن تبون، الذي أدّت أزمته مع الكارتل المالي إلى إقالته سريعاً من رئاسة الحكومة، اتخذ من "المظلومية" والإقصاء من الحكومة الذي تعرّض له، مرتكزاً رئيسياً في إعلان ترشحه، حيث استبق أسئلة الصحافيين بشأن صلته بنظام بوتفليقة، قائلاً "أنا كنت من الأوائل الذين حاربوا الفساد، عوقبت وعوقب ابني، ولا يستوي من آمن قبل الفتح وبعد الفتح" (يقصد بالفتح الحراك الشعبي). وأضاف المرشح للرئاسة إن "صورتي نزعت من قصر الحكومة، وسلطت عليّ عقوبات كان من الممكن أن تؤدي بي إلى أمور أخرى"، في إشارة إلى ما يعتقد أنه انتقامٌ من محيط بوتفليقة والكارتل المالي، بعد أزمته الحادة مع رجال الأعمال النافذين في 2017.

على الرغم من ذلك، يعتقد مراقبون أنه لا يمكن لتبون منافسة غريمه بن فليس في مجال "المظلومية السياسية"، نظراً لما تعرّض له الأخير من إقصاء سياسي منذ عام 2004، فيما كان تبون حتى أغسطس/آب 2017 رئيساً لحكومة بوتفليقة، ولولا أزمته الطارئة مع الكارتل المالي ورجال الأعمال المقربين من محيط بوتفليقة، لكان هو المكلف بترتيبات ترشح الأخير لولاية رئاسية خامسة في الانتخابات التي كانت مقررة في إبريل/نيسان الماضي.

ومنذ إعلان تبون ترشحه، كانت لافتة الحرب الكلامية التي خرجت بينه وبين بن فليس الذي استغرب إقدام الأول على الترشح، معتبراً أن ذلك يعني استمرار العهدة الخامسة لبوتفليقة، فيما ردّ تبون بأن "علي بن فليس صديق"، وأن "الوقت ليس للجدل".

ويفسر الناشط السياسي، القيادي في "حركة البناء الوطني"، أحمد الدان، في تقدير موقف نشره يوم الجمعة، ردّ فعل بن فليس بشأن ترشح تبون وإطلاقه تصريحات ضده، بأنها جزء من صدمة لديه ولدى أنصاره الذين كانوا يعتقدون أنه هو المرشح المفترض للسلطة، وأنه لن يكون هناك من ينافسه على هذا التوصيف الدعائي في الغالب. ويرى الدان أن اعتقاد بن فليس بأنه مرشح السلطة، دفعه إلى استباق كل قوى المعارضة وإعلان ترشحه أولاً.

من جهتهم، يعتقد مراقبون أن السلطة الجزائرية لن تكتفي ببن فليس وتبون، بل ستواصل ضخّ المزيد من المرشحين من أبناء النظام، لتعويم الساحة وابتزاز أحزاب المعارضة المترددة في المشاركة، كحركة "مجتمع السلم" و"جبهة العدالة والتنمية"، لجهة أن عدم مشاركتها يعني إخلاء الطريق بالكامل لعودة رموز النظام السابق، خصوصاً بعد إعلان وزير الثقافة الأسبق والأمين العام بالنيابة لحزب "التجمع الوطني الديمقراطي"، الحزب الثاني للسلطة، عز الدين ميهوبي، ترشحه للرئاسة، وسحب استمارات التوقيعات من الهيئة العليا للانتخابات يوم الأحد المقبل.

ويرجح الناشط السياسي عمار خبابة، في حديث مع "العربي الجديد"، أن يكون للسلطة هذه المرة أكثر من مرشح، لأن ذلك يمثل التغيير في نظرها، حيث ستنظم انتخابات شبه مفتوحة. على الرغم من ذلك، ستراهن السلطة في النهاية، بحسب رأيه، على مرشح محدد "ربما لم يعلن عنه حتى الآن". ويشرح خبابة إرجاء السلطة الدفع بمرشحها المركزي إلى "حرصها على ضمان محيط نظيف له، وعدم إلحاق المجموعات السياسية المحسوبة على نظام بوتفليقة به، لتلافي الصد الشعبي الحساس إزاء هذه المجموعات والتشويش عليه ومنع التحاق المجموعات النفعية به مبكراً".

إلى ذلك، فإنه من الواضح أن السلطة الحاكمة والجيش في الجزائر لا يراهنان على رئيسي الحكومة السابقين، علي بن فليس وعبد المجيد تبون، إذ هما يحتفظان بمخاوف حيال الأول إزاء توجهاته الثورية في الإصلاح السياسي، بما قد يقلب قواعد الحكم رأساً على عقب. كذلك تدرك السلطة والجيش الصعوبات الكبيرة والصدّ الشعبي الذي يواجهه تبون بسبب صلته، القريبة زمنياً حتى، بنظام بوتفليقة، وتورط نجله خالد في قضية تهريب الكوكايين الشهيرة في مايو/أيار 2018 وإخفاقاته عندما كان وزيراً للسكن.

ويعزز هذا الطرح، معلوماتٌ خاصة حصلت عليها "العربي الجديد"، تفيد بأن دوائر السلطة التي تعتقد بنجاحها في تثبيت المسار الانتخابي، وفي إقناع الجزء الغالب من القوى السياسية والشعبية بالضرورات الملحة لإجراء الانتخابات، والاطمئنان على سلامة المسار وترتيبات، انتقلت إلى التفكير في تجهيز مرشح رئاسي يكون غير معروفٍ في الوسط الداخلي، ولم يتورط في العمل داخل المنظومة الحكومية في البلاد، لتلافي أي ربطٍ بينه وبين نظام بوتفليقة. وبحسب المعلومات، فإن المرشح الذي تفكر السلطة في تجهيزه يتوفر في المقابل على علاقاتٍ مقبولة وحضور دولي. وفي هذا السياق، يطرح، وعلى نطاق ضيق، اسم مفوض السلم للاتحاد الأفريقي إسماعيل شرقي.
لكن، وحتى مع وجود جزء من كتلة ناخبة تبدو جاهزة لتنفيذ أي إشارة من السلطة، وحيازة الجيش على ما مجموعه مليون صوت من الأسلاك النظامية، فإن سؤالاً مركزياً يطرح حول الكيفية التي ستتمكن بها السلطة من تمرير مرشحها في حال استقر رأيها على أحدهم. وهنا، تبرز جملة العوامل الداخلية المرتبطة بالسياق الانتخابي، وذهاب قواعد تنظيم الانتخابات من يد السلطة، وزارة الداخلية، إلى سلطة عليا مستقلة تشرف على الانتخابات بالكامل وتحفز الحراك الشعبي وحساسية المرحلة ومخاطر أي تصرف يضر بالانتخابات أو بنتائجها، والتي قد تعيق تنفيذ السلطة لمشروع "مرشح الضرورة".

لا تزال انتخابات ديسمبر/كانون الأول الرئاسية في الجزائر أمام تحدٍ مركزي يتعلق برفض الحراك الشعبي إجراءها، خصوصاً أن السلطة لا تزال بدورها تتوقع رد فعل شعبيا غاضبا إزاء الاستحقاق، ما دفع قائد أركان الجيش أحمد قايد صالح إلى إطلاق تهديدات ضد كل من يعرقل هذا المسار. على الرغم من ذلك، ومع كلّ هذه المخاوف، ستكتمل خلال أيام قليلة معالم الخريطة الانتخابية في الجزائر والتحالفات السياسية المرتبطة بها، وستتضح الأسماء النهائية التي ستخوض السباق الرئاسي، سواء من كتل المعارضة أو من جانب السلطة التي تبحث عن "مرشح الضرورة"، كما ستتكشف تباعاً نوايا السلطة ومدى صدق تعهداتها بشأن إجراء انتخابات يؤمل أن تكون الأكثر شفافية في التاريخ السياسي للجزائر.