ذكرى 11 سبتمبر: لا مخرج من حروب ديك تشيني

11 سبتمبر 2019
تشيني أصدر قراراً رئاسياً في 11 سبتمبر (إيثان ميلر/Getty)
+ الخط -
لم تعد أميركا نفسها بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001. قبل ذلك اليوم كانت معتادة على حماية حلفائها وراء البحار، لكنها وجدت نفسها للمرة الأولى عاجزة عن التصرف حيال هجوم مباغت داخل أراضيها. لا يمكن فهم الأحداث الجارية حالياً في الولايات المتحدة من دون العودة إلى جذور ما حدث في هذا اليوم المشؤوم في التاريخ الأميركي الحديث. وبعدما سعى الرئيس باراك أوباما جاهداً لطيّ صفحة هذه الاعتداءات من الذاكرة الأميركية، يأتي الرئيس الحالي دونالد ترامب لاستكمال هذا المسار عبر محاولة الخروج من أفغانستان لكن أمواج حركة "طالبان" العاتية تعود لتبقي أميركا في الحلقة المفرغة من المستنقع الأفغاني. في اللحظات والأيام والأشهر الأولى من أحداث 11 سبتمبر، كان حاكم البلاد الفعلي نائب الرئيس ديك تشيني الذي يمثل استثناءً في التاريخ الأميركي من ناحية إحكام السيطرة على صلاحيات الرئيس والإجهاز على الدستور الأميركي تحت عنوان الحفاظ على الأمن القومي. فيما كان الرئيس الأسبق جورج بوش الابن جالساً مع تلاميذ القاعة رقم 301 في مدرسة ساراسوتا في ولاية فلوريدا، همس بأذنه كبير موظفي البيت الأبيض أندرو كار: "أميركا تتعرّض للهجوم"، في إشارة إلى استهداف مركز التجارة العالمي في نيويورك، وبعدها كان قرار إبقاء الرئيس في فلوريدا بدلاً من المخاطرة بإعادته إلى واشنطن. لكن مركز صنع القرار حينها كان في مخبأ تحت أرض البيت الأبيض فأبلغ نائب الرئيس ديك تشيني، كل المعنيين أنه المرجع في اتخاذ قرارات التعامل مع هذه الاعتداءات.

الكاتب الصحافي غاريت غراف، نشر بالأمس كتاباً تحت عنوان "الطائرة الوحيدة في السماء: تاريخ شفهي لـ 11 سبتمبر"، الذي يروي فيه ما حصل هذا اليوم تحديداً مباشرة عن لسان المسؤولين الأميركيين، الذين عايشوا تفاصيل هذه المرحلة من دون التدخل في النصّ عبر التعليق أو التحليل. كان مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض منعقداً في اجتماعه اليومي الساعة التاسعة صباحاً بتوقيت الساحل الشرقي، حين ضربت الطائرة التجارية الثانية البرج الجنوبي من مبنى التجارة العالمي، الذي بدأ يتساقط تدريجياً أمام أعين الأميركيين على شاشات التلفزة، وعلم الجميع حينها أن البلاد في أزمة وتواجه حالة حرب. ووضع وزير النقل نورم مينيتا خريطة لكل الطائرات التجارية الأميركية في الهواء في محاولة لمعرفة أي طائرة خرجت عن مسارها أو قد تكون مختطفة لاستهداف مبنى جديد.

دخل عميل "الخدمة السرية" المكلف حماية تشيني وسحب نائب الرئيس نحو مخبأ سري تحت أرض البيت الأبيض حيث مركز "عمليات الطوارئ الرئاسي" الذي أصبح المركز المؤقت لقيادة الأزمة. التفكير الأولي لفريق الأمن القومي كان حماية البيت الأبيض من اعتداء محتمل، أي التركيز كان للدفاع عن النفس بدلاً من المبادرة بالهجوم. القرار الأول الذي اتخذه تشيني كان الأمر بإسقاط طائرة "يونايتد 93" التي كانت متجهة إلى واشنطن وعلى متنها مدنيون وخاطفو الطائرة. السلاح الجوي الأميركي طلب "أمراً رئاسياً" بإسقاطها لكن نائب الرئيس حسم الأمر وطلب إسقاط الطائرة إذا كانت مختطفة. في النهاية، وفّر ركاب الطائرة على السلاح الجوي هذه المهمة وأخذوا زمام المبادرة بحيث انتظروا أن تكون الطائرة فوق أراض غير مأهولة في ولاية بنسلفانيا وحاصروا الخاطفين وتمكنوا من إسقاطها فيما لم ينجُ أيّ من الركاب.

وكشف تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" عام 2007 أن في تلك اللحظة اتصل تشيني بمحاميه ديفيد أدينغتون، وطلب منه الانضمام إليه في مخبأ البيت الأبيض حيث جلس الاثنان لبحث "الثورة القانونية" لإعطاء الرئيس صلاحيات استثنائية للرد على هذه الاعتداءات. بعد أسبوع، وافق الكونغرس في 18 سبتمبر 2001 على تفويض الرئيس باستخدام القوة. بعدها اعتبر تشيني ما حصل تفويضاً لشنّ حرب لا هوادة فيها ومن دون معايير أخلاقية أو قانونية. وهذا كان إشعاراً لحملات التقييد على الحريات المدنية والتجسس وسجن غوانتنامو لاعتقال المتهمين الأجانب بالإرهاب من دون محاكمة، وكانت أيضاً الحروب الخارجية من غزو أفغانستان عام 2001 إلى احتلال العراق عام 2003. أصبح لتشيني باب خلفي يدخل منه على بوش الابن ليحصل على توقيعه من دون مشاورات ولا اجتماعات لمجلس الأمن القومي. لم يتمكن أحد مثل تشيني من توسيع صلاحيات الرئيس الأميركي في الحرب من دون رقابة من الكونغرس. نقل كتاب غاريت غراف عن تشيني قوله: "منذ سنوات سمعت تكهنات بأنني رجل مختلف بعد 11 سبتمبر. لا أقول ذلك. لكن سأعترف بحرية بأن مشاهدة هجوم منسق ومدمّر على بلدنا من مخبأ تحت الأرض في البيت الأبيض يمكن أن يؤثر على كيفية النظر إلى مسؤولياتك".
لكن المؤسسات الحاكمة في واشنطن سعت لوقف بعض هذه الممارسات. هناك الرواية الشهيرة في مارس/آذار 2004 حين توجه مستشار البيت الأبيض القانوني ألبرتو غونزاليز وكبير موظفي البيت الأبيض أندرو كار إلى مستشفى جامعة جورج واشنطن لنيل توقيع وزير العدل جون أشكروفت على قانون يعطي صلاحيات أوسع للتجسس، بشكل يتعارض مع موقف وزارة العدل القانوني. وبما أن أشكروفت كان في وضع صحي غير مستقر، سارع وزير العدل بالوكالة جيمس كومي إلى المستشفى لمنعهم من استغلال مرض وزير العدل الأصيل، في وقت أعطى فيه مدير "أف بي آي" روبرت مولر تعليمات لعملائه في المستشفى، بعدم السماح لمسؤولي البيت الأبيض بإخراج كومي من غرفة أشكروفت. هذه المنازلة أغضبت البيت الأبيض حينها، وقرّر إصدار القرار التنفيذي من دون تصديق وزارة العدل عليه، وكان هناك تهديدات جماعية بالاستقالة من الوزارة نتيجة هذا الإجراء. لكن في نهاية المطاف، وخلال اجتماع دوري مع الاستخبارات في اليوم التالي، أنهى بوش الابن هذا الخلاف وطلب من كومي ومولر اتخاذ الإجراءات اللازمة لجعل هذا القرار ضمن الأطر القانونية التي تسمح بها الوزارة. وكانت هناك أيضاً محاولات وزير الخارجية الأسبق كولن باول تصويب بعض السياسات، لكن ازدادت عزلته حتى قرار استقالته في نوفمبر/تشرين الثاني 2004، كما كان تهديد جنرالات وزارة الدفاع (البنتاغون) بالاستقالة حين لمحت إدارة بوش الابن إلى احتمال شن حرب على إيران عام 2006.

لكن الرادع الأقوى في النهاية كان صناديق الاقتراع في نوفمبر/تشرين الثاني 2006 التي أعطت الديمقراطيين السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ للمرة الأولى منذ عام 1994. هذا الأمر كان كافياً لإنهاء عصر تشيني وبدء استقالة حلفائه داخل الإدارة، لا سيما قرار استقالة أو إقالة وزير الدفاع حينها دونالد رامسفيلد في ديسمبر/كانون الأول 2006. فوضى حرب العراق وضحاياها من الجنود الأميركيين وتداعياتها على الرأي العام الأميركي، جعلت الرئيس الأسبق جورج بوش الأب يتدخل لإبعاد ابنه عن صقور إدارته بقيادة تشيني. وبدأت حينها مرحلة جديدة في مقاربة العراق حتى كان موعد الركود الاقتصادي عام 2008 الذي حصل في وقت كان فيه بوش الابن مشغولاً بحروبه الخارجية.

أوباما وسّع مهام وتعداد القوات الأميركية في أفغانستان ولم يمانع تخفيض عدد القوات الأميركية في العراق، لكن أتى بروز تنظيم "داعش" عام 2014 ليعود بواشنطن مرة أخرى إلى قلب الحدث، في ظل الحرب على "داعش" في العراق وسورية وأفغانستان وغيرها من البلدان. أوباما فشل بتحقيق أمل الأميركيين في الانسحاب من هذه الحروب، ليأتي دونالد ترامب بعده ويواجه المأزق نفسه. كان ترامب مستعداً لعقد لقاء مع حركة "طالبان" في مقر الاستراحة الصيفية للرئيس في "كامب ديفيد" أي المكان نفسه الذي عقد فيه جورج بوش الابن أول اجتماع لـ"حكومة الحرب" بعد 11 سبتمبر لتخطيط الهجوم على تنظيم "القاعدة" في أفغانستان. ترامب ألغى هذا الاجتماع السري الذي تزامن مع ذكرى 11 سبتمبر، ليجد نفسه مرة أخرى أمام خيار الانسحاب من أفغانستان، مع ما يعنيه من احتمال حرب أهلية أفغانية وإيجاد مجموعات إرهابية ملاذاً آمناً لتخطيط هجمات محتملة في الغرب، أو خيار البقاء، أي الاستنزاف طويل المدى للموارد والجنود من دون أفق سياسي. هذا إرث تشيني الذي لم يستطع أي رئيس طيّ صفحته بعد حربين في العراق وأفغانستان، من دون استراتيجية بقاء أو خروج أميركية.
المساهمون