مقابل ذلك، يحضر جعيّط أكثر في تكريمات تونسية وعربية ترافقها قراءات متعددة في منجزه، وهو بذلك نموذج لاعتراف الأجيال الموالية بما قدّمه في ثقافتنا، الأمر الذي قلما حظي به مؤرّخون عرب، خصوصاً وهم على قيد الحياة.
يأتي هذا الاعتراف بالأساس من كونه كان مؤرّخاً يتجه رأساً إلى أمهات الإشكاليات، لا يراوغها أو يعيد ما قيل فيها، فيحفر في الجذور العميقة للحضارة العربية الإسلامية، كيف تأسّست على مستوى المخيال والهوية، وكيف ازدهرت مدنها أو انحطّت، وفي جانب آخر من كتاباته يقدّم مواقفه بجرأة في قضايا معاصرة مثل الاستشراق وعوائق النهضة، فيغذّي كل جانب من أعماله الجانب الآخر.
هناك سبب إضافي للاعتراف، فصاحب "تأسيس الغرب الإسلامي" بدا وقد حلّ معادلة معقدّة في الكتابة التاريخية العربية، فالانضباط العلمي لا يقف حجر عثرة أمام وضوح الفكرة وتدفّق الأسلوب، كما لا يكون الرأي الذي يقدّمه مسقطاً فهو يأتي بعد بناءات مدروسة ومغروسة في الثقافة العامة. مع جعيّط، نجد البحث العلمي مُبصراً على خلاف معظم الكتابة الأكاديمية العربية، وحتى الأجنبية، وفيها يتحوّل البحث العلمي إلى عملية حجب للواقع، فلا يزيد المواضيع المتناولة إلا تعقيداً وإبهاماً في ذهن القارئ البسيط.
يقطع جعيّط أيضاً مع كتابة تاريخية كرونولوجية، فأعماله لا تعتمد القراءة الزمنية وتتابع الأحداث ومرافقة الشخصيات التاريخية في حلّهم وترحالهم، بل اختار الغوص في اللحظة التاريخية التي يدرسها. مثلاً، في كتاب "الكوفة"، لن نجد مشاهير التاريخ من ولاة وقضاة وعسكريين وعلماء وفقهاء كشخصيات رئيسية في عمله، أبطال هذا الكتاب هم ساحة الجامع والسوق والمقبرة وغير ذلك من الأماكن، وفي هذا يبدو جعيّط وقد جسّد حلماً عزيزاً على ابن خلدون حيث تلاحم عنده علم التاريخ بعلم العمران.
ومن وراء جميع هذه العناصر، كان جعيّط مفكرّاً نقدياً، وأن تكون كذلك في ثقافتنا العربية يعني أن تكون نقدياً في جبهتين: داخل إطار التاريخ العربي الإسلامي وأسئلته العاصفة، وضمن الفضاء الثقافي العالمي الأوسع والذي تهيمن عليه قيم الغرب وأدواته المعرفية والتي لن تترك فضاء إلا واخترقته. ولقد تهيّأت لصاحب كتاب "الفتنة" الإمكانيات العلمية، والمواقع الأكاديمية ليمارس هذا النقد، حيث درس في تونس وباريس، ثم درّس في الجامعة التونسية وفي جامعات فرنسية وأميركية. ثم، ظل جعيّط منذ الستينيات إلى اليوم حاضراً باستمرار في هذه القضايا مشتبكاً معها ومتابعاً لتطوّراتها، ومطوّراً لمنهجياته معها.
ربما، يبرّر كل ذلك نبرة الاحتفاء التي نجدها اليوم في معظم قراءات أعمال هشام جعيّط ومشواره. لكن، وعلى أحقّيتها، ألا تشير إلى شعور عربي بغياب تدريجي لنموذج المثقف النقدي هذا؟