ذئاب حول رئيس اليمن
أفضت سياسة "دعم المُناصرين" التي انتهجها في اليمن الرئيس السابق علي عبدالله صالح إلى تخليق مراكز قوى عميقة أدارت الدولة، وهيمنت على الاقتصاد، وأثْرت على حساب اليمنيين، بحيث نجحت في تدوير نفسها في سلطة ما بعد صالح، قوة عابرة للسياسة، وإن كانت هي أحد أدواتها، وتجليا لاختلالاتها. وفي سنوات الحرب، صعدت مراكز قوى جديدة في الساحة اليمنية، إلى جانب القوى القديمة التي حافظت على مواقعها، بحيث خاضتا تنافسا على النفوذ السياسي والثروات وموارد الدولة. وخلافاً لمراكز القوى القديمة التي احتكمت لثقلها القبلي والسياسي، اعتمدت القوى الجديدة على نفوذها السياسي، وعلى قوتها الاقتصادية المتعاظمة التي راكمتها في الحرب، وكذلك على القوى المتدخلة التي صدّرتها سياسياً. وفيما ارتبطت مراكز القوى الصاعدة في المناطق الخاضعة لجماعة الحوثي بأجنحتها السياسية والعسكرية المتنافسة على اقتصاد الحرب، بما في ذلك القوى القبلية والتجارية التي تحالفت معها، مقابل تضحيتها بصالح، فإن مراكز القوى في المناطق المحرّرة صدّرتها المصالح المتغيرة أو الداعمون الإقليميون، سواء التي تتحرّك في نطاقاتٍ محلية ضيقة، أو التي تدير المشهد السياسي، بحيث لعبت دوراً لافتاً في إدارة الصراعات البينية في معسكر السلطة الشرعية ومنافسيها، وكذلك الاستفادة من امتيازات الحرب.
صعدت مراكز قوى جديدة في الساحة اليمنية، إلى جانب القوى القديمة التي حافظت على مواقعها، بحيث خاضتا تنافسا على النفوذ السياسي والثروات وموارد الدولة
تنامت مراكز القوى في المناطق المحرّرة، نتيجة طبيعة الاستقطابات، وتفاقم الصراعات المحلية والإقليمية التي حكمت المشهد اليمني، وكذلك تفضيلات المتدخلين. ومع تعدّد مراكز القوى الفاعلة، بحيث لا يمكن حصرها، فإن هناك مراكز قوى يمكن تمييزها لتأثيرها السياسي، إذ دعمت نفوذها في ظل الحرب، فمن جهةٍ، غذّى الرئيس عبد ربه منصور هادي مراكز قوى جديدة، بالإضافة إلى مراكز الدولة العميقة، مشياً على نهج سلفه صالح، في تدعيم سلطته، بحيث صعّد قوى سياسية واقتصادية موالية له، تحوّلت في مرحلة الحرب إلى مراكز قوى مؤثرة، ارتكزت على عُصبته العائلية والمناطقية "الأبينية" (نسبة لمحافظة أبين)، إذ شكل نجله جلال، مركز ثقل سياسي متنام، جذب مؤيدين لسلطة والده، من خلال تنمية شبكة "المُناصرين"، فيما أصبح نائب مدير مكتب الرئيس هادي للشؤون الاقتصادية، رجل الأعمال، أحمد صالح العيسي، ثقلاً اقتصادياً وسياسياً رئيساً في مرحلة الحرب، نتيجة سيطرته على قطاع المشتقات النفطية، وكذلك تأثيره المباشر على الساحة الجنوبية، حيث موّل قوى سياسية جنوبية مؤيدة للرئيس لمواجهة نفوذ المجلس الجنوبي الانتقالي، بالإضافة إلى تبلور مراكز قوى جديدة داخل سلطة الرئيس وخارجها بدعم المتدخلين الإقليميين. ومن جهة أخرى، أثر تغير المقاربة السعودية لشبكة حلفائها التقليديين في اليمن، بتصدير مراكز قوى جديدة موالية لها، إذ يبدو أن السعودية التي اعتمدت على حلفائها من مشايخ القبائل اليمنية، كمراكز قوى قبلية لعبت دوراً في تمثيل مصالحها في اليمن عقودا، بالإضافة إلى قيادات سياسية وعسكرية، رأت ضرورة إيجاد مركز قوى متنوعة موالية لها، إلى جانب مراكز القوى القديمة، وتكريس رموزها لاعبين مؤثرين في مرحلة الحرب، وربما في مرحلة ما بعد الحرب.
تنامت مراكز القوى في المناطق المحرّرة، نتيجة طبيعة الاستقطابات، وتفاقم الصراعات المحلية والإقليمية التي حكمت المشهد اليمني، وكذلك تفضيلات المتدخلين
يحضر الفريق علي محسن الأحمر، نائب رئيس الجمهورية، مركز قوى عابر للسلطات السياسية اليمنية المتعاقبة، من سلطة صالح إلى سلطة هادي، بحيث تجاوز نفوذه الجانب العسكري والسياسي إلى الاقتصادي، من خلال هيمنته على إدارة المشاريع السعودية في اليمن، بالإضافة إلى دعم شبكة من "المناصرين" الموالين له. ومن جهة أخرى، مكّنته تجربته العسكرية الطويلة من السيطرة على القرار العسكري في السلطة الشرعية، بما في ذلك إدارة علاقتها بالقوى المنافسة لها، كالمجلس الانتقالي الجنوبي، وحزب المؤتمر الشعبي، جناح صالح، كما استطاع تأمين مواقع القوى السياسية والعسكرية والقبلية الموالية له في مؤسسات الدولة في المناطق المحررة، وضرب القوى المناوئة له، بحيث أصبحت هذه القوى خاضعة لسلطته بشكل مباشر، في مقابل توثيق علاقته بالرئيس هادي، كصمام أمان لبقائه في السلطة، فيما حافظ على علاقته التاريخية مع السلطة السعودية، باعتباره من حلفائها التقليديين، بحيث اضطلع بدور رئيس في الإشراف على بعض الملفات السعودية في اليمن، كتعويض ضحايا الحرب، وملف إعادة الإعمار، وتمكّن من إدارة علاقته بالإمارات، الدولة الثانية في التحالف، بقدر كبير من المرونة السياسية، وذلك بتجاوز علاقته البنيوية بحزب التجمع اليمني للإصلاح. ومع ثقل علي محسن، بوصفه واجهة للقوى القديمة، فإنه يشكل عبئا على الرئيس هادي، بتنميته صراعات في المناطق المحرّرة، بالإضافة إلى عداء القوى الجنوبية ومؤتمر صالح لبقائه نائباً للرئيس هادي.
لم يكن صعود الشيخ سلطان البركاني، رئيس البرلمان التابع للسلطة الشرعية، والأمين المساعد لحزب المؤتمر الشعبي في مرحلة الحرب، وتحوّله إلى مركز قوى، يخضع لمهارته السياسية، أو لثقله المناطقي في مدينة تعز، وإنما ارتبط بإدارة السعودية شبكة حلفائها في جناح السلطة الشرعية، وتصعيد زعامات موالية لها، وكذلك محاولتها الاحتفاظ بنفوذ على مؤتمر صالح، في مواجهة تنامي علاقة حليفها الإماراتي بجناح العميد طارق محمد صالح. ومع صعوبة ضبط علاقة أجنحة "المؤتمر الشعبي" بعضها ببعض، بما في ذلك تنافس قياداتها على وراثة صالح في زعامة الحزب، وتقلبها بين الداعمين الإقليميين، فإن سلطان البركاني استطاع استثمار التناقضات في موقف المتدخلين الإقليميين لمصلحة تمكينه سياسياً، إذ احتفظ بعلاقات متوازنة مع السلطتين، السعودية والإماراتية، ما مكّنه من أن يتحول إلى مشرعن لأجنداتهما التوافقية في إدارة اليمن، من خلال رئاسته البرلمان. كما استغل الدعم الإماراتي لمؤتمر صالح، بتنصيب نفسه ممثلا سياسيا لأجنداتها في مدينة تعز، ضد سطوة حزب الإصلاح. ومن جهة أخرى، نجح البركاني في تجاوز صراع أجنحة "المؤتمر"، من خلال كسب قاعدة جماهيرية من أعضاء "المؤتمر"، باعتباره واجهة سياسية رئيسية تدافع عن مصالحهم في السلطة الشرعية.
بمقياس الدعم السعودي لا أكثر، يبرز رئيس الوزراء الحالي، معين عبدالملك، مركز ثقل في السلطة الشرعية، كونه ممثلاً للإدارة السعودية - الإماراتية في اليمن
إلى ذلك، يحضر اسم اللواء رشاد العليمي، مستشار الرئيس هادي، وعضو اللجنة العامة لحزب المؤتمر الشعبي، والرجل الأمني المقرّب من الاستخبارات السعودية، مركز قوى صاعد، لخبرته في إدارة التوازنات السياسية في السلطة الشرعية، وصندوقا أسود للملف العسكري والأمني السعودي في اليمن، فالرجل الذي نجح في أن يكون سلطةً مستقلةً في منظومة السلطة الشرعية، بحيث أثر في قراراتها السياسية، وفي التعيينات في مؤسسات الدولة، طوال سنوات الحرب، بما في ذلك إدارة ملفات سعودية حسّاسة في اليمن، كشراء الولاءات، وتحييد المعارضين، وكذلك تنظيم شبكة حقوقية وإعلامية يمنية داعمة للسعودية، ينسجم مع تركيبته الأمنية في نظام صالح. فعلى الرغم من تقلّده مناصب رفيعة، أهمها وزيراً للداخلية، فقد ظل بعيداً عن الاستهداف الذي تعرّض له رموز نظام صالح، محتفظاً بعلاقته بقيادات سياسية وعسكرية في المعارضة والنظام. ومع تنامي سلطة اللواء رشاد العليمي في مرحلة الحرب، وتنمية مركزه السياسي صديقا مخلصا للسعوديين في المقام الأول، إلا أنه لم ينازع سلطة الرئيس هادي، بل ظل سلطةً موازية له. ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من انتمائه لحزب المؤتمر الشعبي، فإنه احتكم في تقديراته السياسية لمصالحه، بما يكرّس التوازنات السياسية في المناطق المحرّرة، بحيث تماهى مع سياسة حزب الإصلاح في تعز، نتيجة تنافسه مع سلطان البركاني على زعامة "المؤتمر".
يغلب على مراكز القوى الناشئة في الساحة الجنوبية ارتباطها بالقوى السياسية والاقتصادية التي استفادت من الحرب ومن الدعم الإماراتي، بحيث لا يمكن فصل رموزها عن هذه القوى، فإلى جانب قيادات الصف الأول من المجلس الانتقالي الجنوبي التي شكلت مركز نفوذ سياسي له امتداداته الاقتصادية في عدن، وبعض المناطق الجنوبية، فقد ارتبطت بها طبقة ناشئة من التجار الموالين لها، والذين أصبحوا قوة اقتصادية متنامية، تسيطر على المشاريع الإعمارية والتنموية، والشبكة المصرفية في المناطق الجنوبية. بالإضافة إلى قوى اقتصادية غير منظمة تستخدم بعض قيادات المجلس الانتقالي كغطاء سياسي لشرعنة نفوذها، وأبرز هؤلاء المتنفذين الصغار والباسطي نفوذهم على الأراضي، فضلاً عن احتفاظ مراكز القوى القديمة، من صقور نظامي صالح وهادي، بامتيازاتهم باعتبارهم مركز نفوذ في مناطق الجنوب، بحيث يصعب تفكيكها.
تنامت مراكز القوى في المناطق المحرّرة، نتيجة طبيعة الاستقطابات، وتفاقم الصراعات المحلية والإقليمية التي حكمت المشهد اليمني
ربما بمقياس الدعم السعودي لا أكثر، يبرز رئيس الوزراء الحالي، معين عبدالملك، مركز ثقل في السلطة الشرعية، كونه ممثلاً للإدارة السعودية - الإماراتية في اليمن، حيث حرصت الدبلوماسية السعودية على تمكينه رأسا للنخبة السياسية الشابة الموالية لها، نتيجة شرعنته أجندات السعودية والإماراتية في اليمن، بما في ذلك وكلاؤها المحليون، بحيث استطاع عبد الملك أن يحظى بتأييد الدولتين. وفرضته السعودية على فرقاء الصراع في جنوب اليمن، وأعادت تكليفه بتشكيل حكومة توافقية، بما في ذلك تسويقه في الدوائر الدولية رجل المرحلة في اليمن. ونجح الرجل في تمثيل الأجندة السعودية في اليمن، وجرّ اليمن إلى المحور السعودي – الإماراتي - المصري في المنطقة، مقابل عدائه محور قطر- تركيا، بالإضافة إلى تقديمه التدخل السعودي - الإماراتي في اليمن امتدادا للمشروع العربي، ضد المشاريع الأخرى. وحاول معين تقوية مركز نفوذه السياسي، بدعم سعودي لافت في الحكومة اليمنية، من خلال استقطاب شريحة واسعة من الشباب إلى دائرته، وتمويل مواقع إعلامية، وشراء ولاءات بالمال السعودي، لتعزيز نفوذها في اليمن. وفيما ارتبطت تنمية مركز معين بحالة الحرب الحالية، والتدخل السعودي في اليمن، فإن من الصعب أن يحتفظ بثقله السياسي أمام مراكز القوى الجديدة والتقليدية التي تستند إلى موقع سياسي وقبلي ومناطقي، بما في ذلك إمكانات دبلوماسية تتجاوز سياسة "هز الرأس" التي يجيدها.
تتنافس مراكز القوى في الساحة اليمنية على تدعيم مراكز نفوذها، والتأثير على الصراع المحلي. وإذ كان الرئيس عبد ربه منصور هادي قد عمل على تنامي قطيع "الذئاب"، لتدعيم سلطته، فإنها لا تمثل سوى مصالحها والقوى الإقليمية المتحالفة، ومن ثم تتحرّك وفق ذلك، بما في ذلك الانقضاض على ما تبقى من سلطة هادي، متى ما أرادت دول الإقليم.