19 نوفمبر 2024
دُرّية شفيق... ضحية ثقافة القبيلة
لا نحب، نحن العرب، الخاسرين، حتى حين يكونون في خساراتهم أمام القوة، ثواراً وأبطالاً وعلى حق. ليس أننا لا نحبّهم فقط، بل إننا نميل حتى إلى معاقبتهم بنسيانهم، أو بمحوهم من الوجود. نحن أبناء ثقافةٍ قبليةٍ تمجّد القويّ، وتنفي الخارجَ عليها و"تصعلكه"، لتقصيه وترتاح منه. نحن أيضاً لا نحب تعييب صروحَنا التاريخية وشخصياتنا العظيمة و"قادتنا"، لأن العظيم يكون، بعرفنا، منزّها عن كل خطأ أو شائبة، حين هو في الواقع منزّه عن كل نقد.
الأسبوع الماضي، كرّم محرّك غوغل العالمي درّية شفيق، أحد أهم رموز النضال النسائي ورائدة حركة تحرير المرأة في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، فاستفاقت وسائلُ الإعلام في العالم العربي، متناولة أهم المحطات الإيجابية في حياة هذه السيدة الاستثنائية التي أنجزت، في بداية القرن، ما تعجز مؤسساتٌ بأكملها عن إنجازه، ومغفلةً كلّية، على الرغم من مضيّ عقودٍ على رحيلها، ما تعرّضت له من قمع واضطهاد وحصارٍ أدّى بها إلى العيش مقصيّةً تماماً، وشبه مسجونة في منزلها، خلال ثمانية عشر عاماً، وهو على الأغلب ما أفضى لاحقا إلى انتحارها عام 1975 بإلقاء نفسها من الطابق السادس.
ولمن لا يعلم، درية شفيق من مواليد 1908 في طنطا، حيث درست في مدرسة البعثة الفرنسية، وكانت من ضمن أول فوج طالباتٍ أرسلن للدراسة في باريس، على حساب وزارة المعارف المصرية. عام 1940، حازت على دكتوراه في الفلسفة، إلا أنها مُنعت من التعليم في الجامعة عند عودتها إلى مصر، فكان أن أصدرت مجلة "بنت النيل"، وهي أول مجلة نسائية ناطقة بالعربية لتعليم المرأة المصرية وتثقيفها. تعرّفت درية شفيق إلى الصحافي في الأهرام، أحمد الصاوي محمد، فجرى عقد قرانهما، لكنّ الزواج لم يتمّ، إذ إنها طلبت الطلاق ما أن اكتشفت طبيعته المتخلفة خلف قناعه التقدّمي: "هذه أقل تضحيةٍ أقدمها حفاظاً علي مبادئي". في أواخر الأربعينيات، أسست درّية حركة "التحرر الكامل للمرأة المصرية"، وفي فبراير/ شباط 1951، قادت مظاهرة بمعية 1500 امرأة اقتحمن مقرّ مجلس النواب، ما أدّى، بعد فترة قصيرة، إلى منح المرأة المصرية حق الانتخاب والترشيح للبرلمان. بعد ثورة يوليو 1952، طلبت درّية من الحكومة تحويل اتحاد بنت النيل إلى حزبٍ سياسي، فأصبح بذلك أول حزب نسائي مصري. وعند تعديل الدستور عام 1954، احتجّت على عدم وجود عناصر نسائية ضمن اللجنة، وأضربت عن الطعام، إلى أن وعدها الرئيس محمد نجيب في رسالةٍ نقلها إليها محافظ القاهرة بأن الدستور المصري الجديد "سيكفل للمرأة حقها السياسي".
هذا بعضٌ مما حققته هذه السيدة الاستثنائية، وما أجمعت وسائل الإعلام على ترداده. بيد أن التعتيم والمغمغة واللعثمة أصابت الكلامَ، حين بلغ المرحلة التالية من حياتها، إذ صارت الجملُ على هذه الشاكلة: "ودخلت درية شفيق في عزلةٍ نحو 18 عاماً، بسبب الجو السياسي المصري آنذاك"، أو "وخرجت الروايات تؤكد انتحارها، ولم يتم حتى الآن التأكد من سبب إقدامها على إنهاء حياتها بهذا الشكل" .
يُقال هذا، ولا يقال مثلا إن الرئيس جمال عبد الناصر دخل في مواجهة مع درية شفيق إثر قرارها تحويل جمعية "بنت النيل" إلى حزب سياسي. وقد أدى ذلك لاحقاً إلى منع الحكومة عضوات "بنت النيل" من الترشح للبرلمان. وصفت درّية عبد الناصر بالديكتاتور، ويوم 6 فبراير عام 1957، لجأت إلى السفارة الهندية، ثم أرسلت بياناً لعبد الناصر جاء فيه: "نظراً للظروف العصيبة التي تمر بها مصر، قررتُ بحزم أن أضرب عن الطعام حتى الموت... وأنا، كمصرية وكعربية، أطالب السلطات الدولية بإجبار القوات الإسرائيلية على الانسحاب فوراً من الأراضي المصرية... وأطالب السطات المصرية بإعادة الحرية الكاملة للمصريين رجالاً ونساء، وبوضع حد للحكم الديكتاتوري الذي يدفع بلادنا إلى الإفلاس والفوضى. اخترت السفارة الهندية، لأن الهند بلد محايد، ولن أُتّهم بأنني فضّلت معسكرا ما".
إثر طلب الزعيم نهرو من عبد الناصر ضمان حمايتها، خرجت درية شفيق من السفارة الهندية، وقد أصدر عبد الناصر قراراً بتحديد إقامتها في بيتها، فعاشت أسوأ أيام حياتها، حيث أمضت 18 عاماً لا تخرج من منزلها، ولا يزورها أحد.
الأسبوع الماضي، كرّم محرّك غوغل العالمي درّية شفيق، أحد أهم رموز النضال النسائي ورائدة حركة تحرير المرأة في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، فاستفاقت وسائلُ الإعلام في العالم العربي، متناولة أهم المحطات الإيجابية في حياة هذه السيدة الاستثنائية التي أنجزت، في بداية القرن، ما تعجز مؤسساتٌ بأكملها عن إنجازه، ومغفلةً كلّية، على الرغم من مضيّ عقودٍ على رحيلها، ما تعرّضت له من قمع واضطهاد وحصارٍ أدّى بها إلى العيش مقصيّةً تماماً، وشبه مسجونة في منزلها، خلال ثمانية عشر عاماً، وهو على الأغلب ما أفضى لاحقا إلى انتحارها عام 1975 بإلقاء نفسها من الطابق السادس.
ولمن لا يعلم، درية شفيق من مواليد 1908 في طنطا، حيث درست في مدرسة البعثة الفرنسية، وكانت من ضمن أول فوج طالباتٍ أرسلن للدراسة في باريس، على حساب وزارة المعارف المصرية. عام 1940، حازت على دكتوراه في الفلسفة، إلا أنها مُنعت من التعليم في الجامعة عند عودتها إلى مصر، فكان أن أصدرت مجلة "بنت النيل"، وهي أول مجلة نسائية ناطقة بالعربية لتعليم المرأة المصرية وتثقيفها. تعرّفت درية شفيق إلى الصحافي في الأهرام، أحمد الصاوي محمد، فجرى عقد قرانهما، لكنّ الزواج لم يتمّ، إذ إنها طلبت الطلاق ما أن اكتشفت طبيعته المتخلفة خلف قناعه التقدّمي: "هذه أقل تضحيةٍ أقدمها حفاظاً علي مبادئي". في أواخر الأربعينيات، أسست درّية حركة "التحرر الكامل للمرأة المصرية"، وفي فبراير/ شباط 1951، قادت مظاهرة بمعية 1500 امرأة اقتحمن مقرّ مجلس النواب، ما أدّى، بعد فترة قصيرة، إلى منح المرأة المصرية حق الانتخاب والترشيح للبرلمان. بعد ثورة يوليو 1952، طلبت درّية من الحكومة تحويل اتحاد بنت النيل إلى حزبٍ سياسي، فأصبح بذلك أول حزب نسائي مصري. وعند تعديل الدستور عام 1954، احتجّت على عدم وجود عناصر نسائية ضمن اللجنة، وأضربت عن الطعام، إلى أن وعدها الرئيس محمد نجيب في رسالةٍ نقلها إليها محافظ القاهرة بأن الدستور المصري الجديد "سيكفل للمرأة حقها السياسي".
هذا بعضٌ مما حققته هذه السيدة الاستثنائية، وما أجمعت وسائل الإعلام على ترداده. بيد أن التعتيم والمغمغة واللعثمة أصابت الكلامَ، حين بلغ المرحلة التالية من حياتها، إذ صارت الجملُ على هذه الشاكلة: "ودخلت درية شفيق في عزلةٍ نحو 18 عاماً، بسبب الجو السياسي المصري آنذاك"، أو "وخرجت الروايات تؤكد انتحارها، ولم يتم حتى الآن التأكد من سبب إقدامها على إنهاء حياتها بهذا الشكل" .
يُقال هذا، ولا يقال مثلا إن الرئيس جمال عبد الناصر دخل في مواجهة مع درية شفيق إثر قرارها تحويل جمعية "بنت النيل" إلى حزب سياسي. وقد أدى ذلك لاحقاً إلى منع الحكومة عضوات "بنت النيل" من الترشح للبرلمان. وصفت درّية عبد الناصر بالديكتاتور، ويوم 6 فبراير عام 1957، لجأت إلى السفارة الهندية، ثم أرسلت بياناً لعبد الناصر جاء فيه: "نظراً للظروف العصيبة التي تمر بها مصر، قررتُ بحزم أن أضرب عن الطعام حتى الموت... وأنا، كمصرية وكعربية، أطالب السلطات الدولية بإجبار القوات الإسرائيلية على الانسحاب فوراً من الأراضي المصرية... وأطالب السطات المصرية بإعادة الحرية الكاملة للمصريين رجالاً ونساء، وبوضع حد للحكم الديكتاتوري الذي يدفع بلادنا إلى الإفلاس والفوضى. اخترت السفارة الهندية، لأن الهند بلد محايد، ولن أُتّهم بأنني فضّلت معسكرا ما".
إثر طلب الزعيم نهرو من عبد الناصر ضمان حمايتها، خرجت درية شفيق من السفارة الهندية، وقد أصدر عبد الناصر قراراً بتحديد إقامتها في بيتها، فعاشت أسوأ أيام حياتها، حيث أمضت 18 عاماً لا تخرج من منزلها، ولا يزورها أحد.