يبدو أننا لا ننتبه، في حياتنا اليومية، إلى اكتساح الترجمة لمعيشنا؛ فبغضّ النظر عن القراءة حيث تبرز الترجمة أجلى وأوقع، ننسى أنّ البرامج التلفزية المتنوعة والأفلام السينمائية والأخبار الإذاعية والإعلانات كلّها تحمل بصمة الترجمة، لكننا لا نجرؤ، أو ربما نغفل، أن نطرح بصددها ذلك السؤال الممل بصدد منسوب الخيانة فيها أو استحالة الوفاء في مُنجَزِها.
وفي مُقابل الارتياب الذي يُروِّج له أعداء التجديد والمحافظون من حُرّاس العتاقة و"الهوية"، للنيل من هذا المورد الفني والمعرفي الحاضن للغريب، نجد أعلاماً في الإبداع والفكر يُقِرّون بأفضال الترجمة، ويُعربون عن حُبهم لمُزاوليها؛ لعل أبرَزهم الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو، الذي عُرِف بحُبّه المترجِمين وإنصافِه إيّاهم، كيف لا وقد عاش سعيداً مع المترجِمة الإسبانية القديرة بيلارْ دِلْ رِيُّو زوجَتِه ومترجِمتِه، التي نقلتْ أعمالَه إلى الإسبانية، والتي اشتُهِرتْ بإصدارِها لترجماتِه في لغة ثربانتس قبل صدورِها بالبرتغالية، في أحيان كثيرة.
ويؤكّد تقديرَ ساراماغو للمترجِمين ذهابُه إلى أن الأدباء يكتبون أدب أوطانهم، بينما العالَم برمته يَدين للمترجِمين بالكثير، لأنهم كُتّاب الأدب العالِمي.
ويعترف الكاتب الفرنسي مُورِيس بْلَانْشُو، من جهته، للمترجمين بمكانتهم ودورهم المهم في تثقيف قُرّائهم وفتح عيونهم على عوالِم جديدة، إذ يقول: "هل نحن على دراية بما نَدين به للتراجمة، وأكثر من ذلك، للترجمة؟ إننا نَعْلَمُه بشكل سيّئ. وحتى إن كان لدينا امتنان تُجاه البشر الذين يقتحمون ببسالة هذا اللغزَ المتمثِّلَ في مهمة الترجمة، وإنْ حيَّيناهم من بعيد بصفتهم أساتذةَ ثقافَتِنا الخفِيِّين، بما لهم من وداعة خاضعةٍ لحَماسِهم، يبقى اعترافُنا بهم صامِتاً ومُزدَرِياً بعضَ الشيء، وعلاوة على ذلك وبتواضع، نحن لسنا في المستوى حتى نكون مُعترِفين بهم".
ويتبنّى الروائي الإسباني أنطونيو مونيوث مولينا، في مقاله "المترجمون" الموقف ذاتَه، بتأكيده أنَّ "المترجمين أساسيُّون، ولأن عملهم يوجد في كل الجهات، فإنهم ينزعون إلى التلاشي في اللامرئي، ولأنهم، أيضاً، بقدر ما ينجزون عملهَم بإتقان تمكُثُ آثارٌ أقلُّ تدلُّ عليه، لدرجة يتهيَّأ معها أنهم لم يتدخَّلوا.
نلاحظُ أن ترجمةً ما تُزعِجُنا بطريقة شبيهة بما نلاحظُه من صرير أثناءَ تغييرات السرعة من قِبَل سائق مُضايَق أو عديم الخبرة. هكذا تقفز كلمة غريبة، وتعبيرٌ ينتمي ظاهرياً إلى لغة أخرى، ونُدْركُ في تلك اللحظة فحسب، حقيقةً، أننا بصدد قراءة ترجمة. أن نفكّر حصرياً تقريباً في المترجم حين نحدس أنه قد أخطأ، فذاك دليل في الوقت ذاته على قيمة ذاك العمل، وعلى قلَّة الاعتراف الذي غالبا ما يحظى به".
إذن، لا عجب إنِ امتدَحَ والتر بنيامين المترجِمين على صبرهم وعنائهم، وهم "يختبرون بطريقة خاصة نُضج الكلمة الغريبة، مُتَّبعين آلامَ الوِلادة في لغتهم الخاصة"، لأنهم الذي يُجدّدون اللغة والفكر والأدب، ويرتقون بوعي الشعوب.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الاجتراءَ على المترجِمين، وبخسَ عملِهم قدرَه لم يتوقَّف منذ أن اجترحَ الإنسان هذه المهمة، فتارة يُذهب إلى ادعاء استحالتها، وتارة إلى خيانتها، وتارة أخرى إلى الارتياب فيها.
لكنَّ المعلوم أنَّ كثيراً من دور النشر مَدينة للترجمة بالأفضال عليها، لأن الكُتُب الأكثر استهلاكاً باعتراف الناشرين الكبار أنفسِهم هي المترجَمة، نَظَراً لإقبال القُرّاء على الأعمال العالمية التي تُوفِّرها لهم الأخيرة، ولأن الطلبة والباحثين يُقبلون على الدراسات الفكرية والأبحاث الفلسفية والروائية بنهم كبير.
ويُفتَرَض أن يُعرب قُرّاء الترجمة عن ديْنهم للتراجمة على شجاعتهم واجترائهم على المغامرة بنقل أعمال فكرية وأدبية إلى ثقافتهم المُضيفة، بعد اتخاذهم قرارات لغوية وأسلوبية وتخييلية وإيقاعية لا تخلو من إبداع، ولما فيها من تحدٍّ للسلطة التي تخشى النصوص المُزعجة، مثلما أنها تفتح عيونَ هؤلاء القُرّاء على الآخر الغريب، فيَعُون من خلالها واقع العالَم وأحوالَهم الذاتية أيضاً.
لكن كثيراً من المترجمين أنفسهم يَدينون للترجمة، لأنها مصدر عيش كثير منهم، ولأنها سبيل يسَّر لكثير منهم سبيل ولوج عالَم الكتابة.