26 سبتمبر 2014
ديمقراطية عربية مقعدة
صورة الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، وهو يسعى على كرسيه المتحرك، ليدلي بصوته الانتخابي، تختزل، إلى حد التماهي، صورة الديمقراطيات العربية، والتي مرت من مرحلة المجالس الصورية التمثيلية، ومرحلة إعادة انتخاب العسكري الحاكم، بعد ارتدائه بزة مدنية، وإعلانه استقالته من رتبته ونياشينه، إلى مرحلة انتخاباتٍ كانت نزيهة تقنياً، بعد ثورات الربيع العربي، ثم اغتيلت في لحظة اكتمالها جنيناً حياً، فأصبحت رميماً تذروه رياح العسكر الذين يريدون استعادة كرسي الحكم، وتجميد اللحظة التاريخية، حيث كانت قبل الثورة.
المأساة التراجيدية "الإغريقية" التي نعيشها كأمة، لا تتمثل في انقلابات العسكر المتتالية، وتناسلهم في الحكم سنين عديدة، بل في وجود مربعات موازية للسلطة، يشغلها مدنيون "علمانيون غالباً"، ينظرون بحماس لحكم العسكر، ويتفننون في إنتاج مصادر شرعية لهم، تتكئ، تارة، على الكاريزما التاريخية، وتارةً، ترتكز على "ذهنية التخطئة" التي أنتجها تيار مراجعات التراث ونقده، كرد فعل متأخر على نكسة 1967، وتعلن، إذ ذاك، أن شعوبنا العربية والمسلمة غير قادرة على تمثل الأفكار والقيم الديمقراطية، ما دامت لم تحدث "قطيعة ابستمولوجية"، مع عوائق تراثها المؤسس لفكرها، وتخلص إلى أن الأفضل هو أن يحكمها من يستطيع سياستها كما يجب أن تساس!
في الواقع، تبدو المفارقة ضخمة ومستفزة، حين نلاحظ أن الذين تعاونوا، بالتنظير والمؤازرة، مع العسكر في حكمهم قبل الربيع العربي، ثم يتآزرون معهم، الآن، يزعمون أنهم يصدرون في فكرهم من مشكاة الديمقراطية والحداثة، والتي لا تتحقق، من وجهة نظرهم، سوى بالعلمانية "الاجتثاثية"، كما يراها توماس بين في كتابه "عصر العقل".
هل لتلك المفارقة من تبريرات مفاهيمية تسمح بتمريرها؟
لا بد أن يمر أي محلل على ذلك السؤال، ولا بد، قبل محاولة البحث فيه، أن يعترف بأن ثمة علمانيين آخرين، نأوا بأنفسهم عن تلك العزلة، وقرروا، كما فعل الراحل قبل أيام، غابرييل غارسيا ماركيز، أن يجابهوا العزلة، ولو اقتضى الأمر مائة عام كاملة، وأن ينددوا بالظلم والإقصاء لأي طرف سياسي، ولأي إرادة حرة، ولو وقع كل منهم بيانه منفرداً.
يمكن القول، إذن، كتحليل لسلوك تلك النخب المدنية العلمانية التي فضلت ابتلاع مبادئها، أو تحويرها، لتصبح في خدمة الحاكم المستبد، إنها وجدت نفسها، منذ البداية، في مواجهة بيئةٍ شعبيةٍ جماهيريةٍ غير "صديقة"، فالجماهير العربية والمسلمة، بطبيعة "رأسمالها الرمزي"، متدينة، والدين جزءٌ أصيل وأساسي من مكونات هويتها. لذلك، من الصعب، أو المستحيل، أن يتغلغل داخلها، بشكل واسع، أي تيار تصادمي مع الدين وأنماطه السلوكية، ولا يسمح المقام، هنا، بالاستفاضة في تحليل ذلك الصدام. لذلك، سنتجاوز لنقول إن النخب العلمانية "الحداثية" تكيست في مناطق بعيدة، ونخبوية جداً، وقريبة من صانع القرار، حتى ولو كان عسكرياً في الأصل، أو مدنياً قادماً من العسكر، بعد إعادة تغيير بزته.
ولربما كانت في فلسفتها تلك تهدف إلى إحداث تغييرٍ في المجتمع، بعقد صفقة مع الحاكم، تدعمه، بموجبها، وتوفر له الحاضنة المدنية التي يحتاجها لتوطيد وجوده المتغلب، مقابل أن تتمتع بإمكانيات مادية هائلة، لمحاولة إثبات جدوى نهجها السياسي والفكري. لكن، ما حدث كان كارثياً بامتياز عند تلك النخب العلمانية، ففي أول انتخاباتٍ برلمانيةٍ ديمقراطية، في مصر مثلاً، بعد ثورة يناير، فوجئت بتصويتٍ جماهيريٍ ساحق للتيارات الدينية، وقال واحد من ممثليها في ندوة في قناة تلفزيونية، بعد تلك الانتخابات: لا يجب أن نلوم الجماهير، علينا لوم أنفسنا، فقد لبثنا عمراً ونحن بعيدون عن الشعوب، في حين يقدم لها الآخرون الدواء، والماء الصالح للشرب، والخدمات الاجتماعية المتعددة، نجح "الآخرون" في تقديم صورة "الخادم" بامتياز لشعبه.
هنا، وأمام استحالة الفوز في معركة الاختيار الحر للجماهير، وفي لعبة ديمقراطية الصندوق الانتخابي، بدأت تلك النخب العلمانية تنسجم مع تيار سياسي "لا فكري"، يظهر، من حين إلى آخر، في بقاع عدة في العالم، ويطالب بإعادة تأويل إجراءات ترسيم الديمقراطية، لأنها تفرز، أحياناً، بعض المغضوب عليهم في مراكز صنع القرار الغربي، المهيمنة على العالم. وبدأت تلك النخب العلمانية تكبل قطار الديمقراطية، وتتصيد أرجله، لتتنتج ديمقراطيتها "المقعدة"، والتي لن تسمح للصندوق الانتخابي أن يحدد كل شيء، وبشكل حاسم، لأن ثمة مقاربات ستشكل مبادئ فوق دستورية لها، عمادها ما يسمى الأمن، ومكافحة الإرهاب والفاشية الدينية.
أصبح لاعبو الديمقراطية "المقعدة" معروفين بشروط، من أهمها أن لا يكونوا من تيارات دينية تستطيع اكتساح الصناديق بشعبيتها الانتخابية، وأن لا يكونوا في خانة من يصنفون أعداء للعلمانية.
خلاصة القول إن الأخطر علينا، كشعوب حالمة بتكرار لحظة حريتها "الثورية"، ليس انقلابات العسكر، بقدر ما هو الطرح العلماني الذي استأصل أرجل الديمقراطية، وتركها مختزلةً في كرسي رئيس متحرك، وجعل الجنرالات في "متاهات حكمهم"، يجدون من "يكلمهم" عن مفاهيمية وأصالة ما يجترحون من مقامع ومذابح.
المأساة التراجيدية "الإغريقية" التي نعيشها كأمة، لا تتمثل في انقلابات العسكر المتتالية، وتناسلهم في الحكم سنين عديدة، بل في وجود مربعات موازية للسلطة، يشغلها مدنيون "علمانيون غالباً"، ينظرون بحماس لحكم العسكر، ويتفننون في إنتاج مصادر شرعية لهم، تتكئ، تارة، على الكاريزما التاريخية، وتارةً، ترتكز على "ذهنية التخطئة" التي أنتجها تيار مراجعات التراث ونقده، كرد فعل متأخر على نكسة 1967، وتعلن، إذ ذاك، أن شعوبنا العربية والمسلمة غير قادرة على تمثل الأفكار والقيم الديمقراطية، ما دامت لم تحدث "قطيعة ابستمولوجية"، مع عوائق تراثها المؤسس لفكرها، وتخلص إلى أن الأفضل هو أن يحكمها من يستطيع سياستها كما يجب أن تساس!
في الواقع، تبدو المفارقة ضخمة ومستفزة، حين نلاحظ أن الذين تعاونوا، بالتنظير والمؤازرة، مع العسكر في حكمهم قبل الربيع العربي، ثم يتآزرون معهم، الآن، يزعمون أنهم يصدرون في فكرهم من مشكاة الديمقراطية والحداثة، والتي لا تتحقق، من وجهة نظرهم، سوى بالعلمانية "الاجتثاثية"، كما يراها توماس بين في كتابه "عصر العقل".
هل لتلك المفارقة من تبريرات مفاهيمية تسمح بتمريرها؟
لا بد أن يمر أي محلل على ذلك السؤال، ولا بد، قبل محاولة البحث فيه، أن يعترف بأن ثمة علمانيين آخرين، نأوا بأنفسهم عن تلك العزلة، وقرروا، كما فعل الراحل قبل أيام، غابرييل غارسيا ماركيز، أن يجابهوا العزلة، ولو اقتضى الأمر مائة عام كاملة، وأن ينددوا بالظلم والإقصاء لأي طرف سياسي، ولأي إرادة حرة، ولو وقع كل منهم بيانه منفرداً.
يمكن القول، إذن، كتحليل لسلوك تلك النخب المدنية العلمانية التي فضلت ابتلاع مبادئها، أو تحويرها، لتصبح في خدمة الحاكم المستبد، إنها وجدت نفسها، منذ البداية، في مواجهة بيئةٍ شعبيةٍ جماهيريةٍ غير "صديقة"، فالجماهير العربية والمسلمة، بطبيعة "رأسمالها الرمزي"، متدينة، والدين جزءٌ أصيل وأساسي من مكونات هويتها. لذلك، من الصعب، أو المستحيل، أن يتغلغل داخلها، بشكل واسع، أي تيار تصادمي مع الدين وأنماطه السلوكية، ولا يسمح المقام، هنا، بالاستفاضة في تحليل ذلك الصدام. لذلك، سنتجاوز لنقول إن النخب العلمانية "الحداثية" تكيست في مناطق بعيدة، ونخبوية جداً، وقريبة من صانع القرار، حتى ولو كان عسكرياً في الأصل، أو مدنياً قادماً من العسكر، بعد إعادة تغيير بزته.
ولربما كانت في فلسفتها تلك تهدف إلى إحداث تغييرٍ في المجتمع، بعقد صفقة مع الحاكم، تدعمه، بموجبها، وتوفر له الحاضنة المدنية التي يحتاجها لتوطيد وجوده المتغلب، مقابل أن تتمتع بإمكانيات مادية هائلة، لمحاولة إثبات جدوى نهجها السياسي والفكري. لكن، ما حدث كان كارثياً بامتياز عند تلك النخب العلمانية، ففي أول انتخاباتٍ برلمانيةٍ ديمقراطية، في مصر مثلاً، بعد ثورة يناير، فوجئت بتصويتٍ جماهيريٍ ساحق للتيارات الدينية، وقال واحد من ممثليها في ندوة في قناة تلفزيونية، بعد تلك الانتخابات: لا يجب أن نلوم الجماهير، علينا لوم أنفسنا، فقد لبثنا عمراً ونحن بعيدون عن الشعوب، في حين يقدم لها الآخرون الدواء، والماء الصالح للشرب، والخدمات الاجتماعية المتعددة، نجح "الآخرون" في تقديم صورة "الخادم" بامتياز لشعبه.
هنا، وأمام استحالة الفوز في معركة الاختيار الحر للجماهير، وفي لعبة ديمقراطية الصندوق الانتخابي، بدأت تلك النخب العلمانية تنسجم مع تيار سياسي "لا فكري"، يظهر، من حين إلى آخر، في بقاع عدة في العالم، ويطالب بإعادة تأويل إجراءات ترسيم الديمقراطية، لأنها تفرز، أحياناً، بعض المغضوب عليهم في مراكز صنع القرار الغربي، المهيمنة على العالم. وبدأت تلك النخب العلمانية تكبل قطار الديمقراطية، وتتصيد أرجله، لتتنتج ديمقراطيتها "المقعدة"، والتي لن تسمح للصندوق الانتخابي أن يحدد كل شيء، وبشكل حاسم، لأن ثمة مقاربات ستشكل مبادئ فوق دستورية لها، عمادها ما يسمى الأمن، ومكافحة الإرهاب والفاشية الدينية.
أصبح لاعبو الديمقراطية "المقعدة" معروفين بشروط، من أهمها أن لا يكونوا من تيارات دينية تستطيع اكتساح الصناديق بشعبيتها الانتخابية، وأن لا يكونوا في خانة من يصنفون أعداء للعلمانية.
خلاصة القول إن الأخطر علينا، كشعوب حالمة بتكرار لحظة حريتها "الثورية"، ليس انقلابات العسكر، بقدر ما هو الطرح العلماني الذي استأصل أرجل الديمقراطية، وتركها مختزلةً في كرسي رئيس متحرك، وجعل الجنرالات في "متاهات حكمهم"، يجدون من "يكلمهم" عن مفاهيمية وأصالة ما يجترحون من مقامع ومذابح.